الأربعاء، 9 مايو 2012

ذو القرنين من تفسير الثعالبي


تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي  متوفي 875 هـ 



وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } * { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } * { فَأَتْبَعَ سَبَباً } * { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } * { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } * { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } * { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } * { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } * { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } * { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا

وقوله سبحانه: { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ } «ذو القرنين»، هو المَلِكُ الإسْكَنْدَرُ اليُونَانِيُّ، واختلف في وَجْه تسميته بـ «ذي القَرْنَيْنِ» وأحسنُ ما قيل فيه: أنه كان ذا ظفِيرَتين، من شَعْرهما قرناه، والتمكينُ له في الأرض: أنه مَلَكَ الدنيا، ودانَتْ له الملوك كلها، وروي أن جميع من مَلَكَ الدنيا كلَّها أربعَةٌ، مُؤْمِنَانِ وكافران؛ فالمُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام، والإسْكَنْدَرُ، والكافِرَانِ: نُمْرُود، وبُخْتَ نَصَّرَ.

وقوله سبحانه: { وَآتَيْنَـٰهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } معناه: علْماً في كل أمْرٍ، وأقيسةً يتوصَّل بها إِلى معرفة الأشياء، وقوله: { كُلِّ شَيْءٍ } عمومٌ معناه الخصوص في كلِّ ما يمكنه أنْ يعلمه ويحتاجُ إلَيْه، وقوله: { فَأَتْبَعَ سَبَباً } ، أي: طريقاً مسلوكةً، وقرأ نافع وابن كثير: وحفص عن عاصم: «في عَيْنٍ حِمِئَة»، أي: ذاتِ حَمْأة، وقرأ الباقون: «في عَيْنٍ حَامِيَةٍ»، أي: حارَّة، وذهب الطبريُّ إلى الجمع بين الأمرين، فقال: يحتملُ أن تكون العين حارَّة ذاتَ حَمْأة؛ واستدلَّ بعضُ الناس على أن ذا القرنَيْن نبيٌّ بقوله تعالى: { قُلْنَا يَٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ } ، ومن قال: إنه ليس بنبيٍّ، قال كانت هذه المقالةُ مِنَ اللَّهِ له بإِلهامِ.

قال * ع *: والقول بأنه نبيٌّ ضعيفٌ، و { إِمَّا أَن تُعَذِّبَ } معناه: بالقَتْلِ على الكُفْر، { وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } ، أي: إِن آمنوا، وذهب الطبري إِلى أنَّ اتخاذه الحُسْن هو الأسْرُ مع كُفْرهم، ويحتمل أنْ يكون الاتخاذ ضَرْبَ الجزية، ولكنْ تقسيم ذي القرنين بعد هذا الأمْر إِلى كفر وإيمان يردُّ هذا القوْلَ بعْضَ الردِّ، و { ظَلَمَ }؛ في هذه الآية: بمعنى كَفَر، وقوله: { عَذَاباً نُّكْراً } ، أي: تنكره الأوهام، لِعَظَمِهِ، وتستهوله، و { ٱلْحُسْنَىٰ } يراد بها الجَنَّة.

وقوله تعالى: { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } المعنى: ثم سلك ذو القرنين الطُّرُق المؤدِّية إِلى مَقْصِده، وكان ذو القرنَيْن، على ما وقع في كُتُب التاريخ يَدُوسُ الأرض بالجيوشِ الثِّقَال، والسِّيرةِ الحميدةِ، والحَزْمِ المستيقِظِ، والتأيِيدِ المتواصِلِ، وتقوى اللَّه عزَّ وجلَّ، فما لقي أُمَّةً، ولامَرَّ بمدينةٍ إِلا ذَلَّتْ ودَخَلَتْ في طاعته، وكُلُّ من عارضه أوْ توقَّف عن أمْره، جعله عظةً وآيةً لغيره، وله في هذا المعنى أخبارٌ كثيرةٌ وغرائبُ، مَحَلُّ ذكرها كُتُبُ التاريخ.

وقوله: { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ } المراد بـــ«القوم» الزَّنْج، قاله قتادة، وهم الهنود وما وراءهم، وقال الناس في قوله سبحانه: { لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً } معناه: أنهم ليس لهم بنيانٌ، إِذ لا تحتمل أرضهم البناءَ وإِنما يدخلون مِنْ حَرِّ الشمس في أسْرَابٍ، وقيل: يدخلون في مَاءِ البَحْر؛ قاله الحسن وغيره، وأكْثَرَ المفسِّرون في هذا المعنى، والظاهر من اللفظ أنها عبارة بَلِيغَةٌ عن قُرْب الشمس منهم، ولو كان لهم أسرابٌ تغني لكان سِتْراً كثيفاً.

وقوله: { كَذَٰلِكَ } معناه: فَعَلَ معهم كَفِعْله مع الأولين أهْلِ المَغْرب، فأوجز بقوله: { كَذَٰلِكَ }.


 { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } * { قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } * { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً }

وقوله: { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ... } الآية: «السَّدَّان»، فيما ذكر أهل التفسير: جبلان سَدَّا مسالك تلك الناحية، وبَيْنَ طَرَفيِ الجبلين فَتْحٌ هو موضع الرَّدْم، وهذان الجَبَلان في طَرَفِ الأرضِ ممَّا يلي المَشْرِق، ويظهر من ألفاظ التواريخُ؛ أنهما إلى ناحية الشمال.

وقوله تعالى: { وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً }: قال السُّهَيْليُّ: هم أهل جابلَص، ويقال لها بالسُّرْيانية «جَرْجيسَا» يسكنها قومٌ مِنْ نَسْل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح.

وقوله تعالى: { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ } هم: أهلُ جابَلَقَ، وهم من نسل مؤمني قوم عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لها بالسُّرْيانيَّة: «مَرْقِيِسيَا» ولكل واحدةٍ من المديَنتْينِ عَشَرة آلاف بابٍ، بين كلِّ بابين فرسَخٌ، ومر بهم نبُّينا محمَّد صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإسراء، فدعاهم، فأجابوه، وآمنوا به، ودعا من ورائهم من الأمم، فلم يجيبوه في حديثٍ طويلٍ رواه الطبريُّ عن مقاتل بن حَيَّان، عن عكرمة عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، واللَّه أعلم. انتهى، واللَّه أعلم بصَّحته.

و { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ }: قبيلان من بني آدم، لكنَّهم ينقسمون أنواعاً كثيرةً، اختلف الناس في عددها، واختلف في إفسادهم الذي وصَفُوهم به، فقيل: أكْلُ بَني آدم، وقالت فرقة: إفسادهم: هو الظُّلْم والغَشْم وسائرُ وجوه الإِفساد المعلومِ من البَشَر، وهذا أظهر الأقوال، وقولهم: { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً }: استفهامٌ على جهة حُسْن الأدبِ، «والخْرجُ»: المُجْبَى، وهو الخراج، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: «خَرَاجاً»، وروي في أمر يأجوج ومأجوج أنَّ أرزاقهم هِيَ من التِّنِّينِ يُمْطَرُونَ به، ونحو هذا مما لم يَصِحَّ، وروي أيضاً أنَّ الذَّكَر منهم لا يَمُوتُ حتى يولَدَ له ألْفٌ والأنثى كذلك، وروي أنهم يتسافَدُونَ في الطُّرُق كالبهائِمِ، وأخبارُهُم تضيقُ بها الصُّحُف، فاختصرْتُ ذلك؛ لعَدَمِ صحَّته.

* ت *: والذي يصحُّ من ذلك كثْرَةُ عددهم على الجُمْلة، على ما هو معلوم من حديثِ: «أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ» وغيره من الأحاديث.

وقوله: { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } المعنى: قال لهم ذُو القَرْنَيْنِ: ما بسطه اللَّه لي من القُدْرة والمُلْك خَيْرٌ من خَرَاجكم، ولكن أعينوني بُقَّوة الأبدان، وهذا من تأييد اللَّه تعالى له، فإِنه تهَدَّى في هذه المحاورة إِلى الأنفع الأَنْزَه، فإِنَّ القوم لو جمعوا له الخَرَاجَ الذي هو المالُ، لم يُعِنْهُ منهم أحدٌ، ولَوَكَّلُوه إلى البنيان، ومعونَتُهم بالقوَّة أجْمَلُ به.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق