الأربعاء، 4 أبريل 2012

ذو القرنين من تفسير البغوي



 تفسير معالم التنزيل البغوي متوفي سنة  516 هـ

قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} خبرا واختلفوا في نبوته: فقال بعضهم: كان نبيا.
وقال أبو الطفيل: سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين أكان نبيا أم ملكا؟ قال: لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا أحب الله وأحبه الله، ناصح الله فناصحه الله.
وروي أن عمر رضي الله عنه سمع رجلا يقول لآخر: يا ذا القرنين فقال: تسميتم بأسماء النبيين فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة.
والأكثرون على أنه كان ملكا عادلا صالحا.
واختلفوا في سبب تسميته بـ {ذي القرنين} قال الزهري: لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها.
وقيل: لأنه ملك الروم وفارس.
وقيل: لأنه دخل النور والظلمة.
وقيل: لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشمس.
وقيل: لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان.
وقيل: لأنه كان له قرنان تواريهما العمامة.
وروى أبو الطفيل عن علي أنه قال سمي ذا القرنين لأنه أمر قومه بتقوى الله، فضربوه على قرنه الأيمن فمات فبعثه الله، ثم أمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات، فأحياه الله.
واختلفوا في اسمه قيل: اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح. وقيل: اسمه الإسكندر بن فيلفوس بن ياملوس الرومي.

قوله عز وجل: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ} أوطأنا، والتمكين: تمهيد الأسباب. قال علي: سخر له السحاب فحمله عليها، ومد له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء، فهذا معنى تمكينه في الأرض وهو أنه سهل عليه السير فيها وذلل له طرقها.
{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي: أعطيناه من كل شيء يحتاج إليه الخلق.
وقيل: من كل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء.
{سَبَبًا} أي: علما يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به في أقطار الأرض، والسبب: ما يوصل الشيء إلى الشيء.
وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد. وقيل: قربنا إليه أقطار الأرض.

{فَأَتْبَعَ سَبَبًا} أي: سلك وسار، قرأ أهل الحجاز والبصرة: {فاتبع} و{ثم اتبع} موصولا مشددا، وقرأ الآخرون بقطع الألف وجزم التاء، وقيل: معناهما واحد.
والصحيح: الفرق بينهما، فمن قطع الألف فمعناه: أدرك ولحق، ومن قرأ بالتشديد فمعناه: سار، يقال: ما زلت أتبعه حتى أَتْبَعْتُه، أي: ما زلت أسير خلفه حتى لحقته.
وقوله: {سببا} أي: طريقا. وقال ابن عباس: منزلا. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرأ أبو جعفر وأبو عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر: {حامية} بالألف غير مهموزة، أي: حارة، وقرأ الآخرون: {حَمِئَةٍ} مهموزا بغير الألف، أي: ذات حماة، وهي الطينة السوداء.
وسأل معاوية كعبا: كيف تجد في التوراة أن تغرب الشمس؟ قال: نجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين.
قال القتيبي: يجوز أن يكون معنى قوله: {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي: عندها عين حمئة، أو في رأي العين.
{وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} أي: عند العين أمة، قال ابن جريج: مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجب.
{قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} يستدل بهذا من زعم أنه كان نبيا فإن الله تعالى خاطبه والأصح: أنه لم يكن نبيا، والمراد منه: الإلهام.
{إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} يعني: إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} يعني: تعفو وتصفح وقيل: تأسرهم فتعلمهم الهدى. خيره الله بين الأمرين.



{قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} أي: كفر {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي: نقتله {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} في الآخرة {فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} أي: منكرا يعني: بالنار، والنار أنكر من القتل. {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} قرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب: {جَزَاءً} منصوبا منونا أي: فله الحسنى {جزاء} نصب على المصدر وهو مصدر وقع موقع الحال، أي: فله الحسنى مجزيا بها.
وقرأ الآخرون: بالرفع على الإضافة، فالحسنى: الجنة أضاف الجزاء إليها كما قال: {ولدار الآخرة خير} [يوسف- 9]، والدار هي الآخرة.
وقيل: المراد بـ {الحسنى} على هذه القراءة: الأعمال الصالحة. أي له جزاء الأعمال الصالحة.
{وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} أي: نلين له القول ونعامله باليسر من أمرنا. وقال مجاهد: {يسرا} أي: معروفا. {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي: سلك طرقا ومنازل. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} أي موضع طلوعها {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} قال قتادة والحسن: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر، وذلك أنهم كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء فكانوا يكونون في أسراب لهم حتى إذا زالت الشمس عنهم خرجوا إلى معايشهم وحروثهم.
وقال الحسن: كانوا إذا طلعت الشمس يدخلون الماء فإذا ارتفعت عنهم خرجوا يتراعون كالبهائم.
وقال الكلبي: هم قوم عراة يفترش أحدهم إحدى أذنيه، ويلتحف بالأخرى.

قوله عز وجل: {كَذَلِكَ} قيل: معناه كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها والصحيح أن معناه: كما حكم في القوم الذين هم عند مغرب الشمس كذلك حكم في الذين هم عند مطلع الشمس {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} يعني: بما عنده ومعه من الجند والعدة والآلات {خبرا} أي: علما. {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص: {السَّدَّيْنِ} و{سدا} هاهنا بفتح السين وافق حمزة والكسائي في {سدا} وقرأ الآخرون: بضم السين وفي يس {سدا} بالفتح حمزة والكسائي وحفص وقرأ الباقون بالضم منهم من قال: هما لغتان معناهما واحد. وقال عكرمة: ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بالفتح وما كان من صنع الله فهو سد بالضم وقاله أبو عمرو. وقيل: السد: بالفتح مصدر وبالضم اسم وهما هاهنا: جبلان سد ذو القرنين ما بينهما حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن ورائهم. {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا} يعني: أمام السدين. {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} قرأ حمزة والكسائي: {يفقهون} بضم الياء وكسر القاف على معنى لا يفقهون غيرهم قولا وقرأ الآخرون: بفتح الياء والقاف أي لا يفقهون كلام غيرهم قال ابن عباس: لا يفقهون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم. {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} فإن قيل: كيف قالوا ذلك وهم لا يفقهون؟
قيل: كلم عنهم مترجم، دليله: قراءة ابن مسعود: لا يكادون يفقهون قولا قال الذين من دونهم يا ذا القرنين.
{إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} قرأهما عاصم بهمزتين وكذلك في الأنبياء، {فتحت يأجوج ومأجوج} والآخرون بغير همز في السورتين وهما لغتان أصلهما من أجيج النار وهو ضوؤها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم.
وقيل: بالهمزة من شدة أجيج النار وبترك الهمز اسمان أعجميان مثل: هاروت وماروت، وهم من أولاد يافث بن نوح.
قال الضحاك: هم جيل من الترك. قال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج، خرجت فضرب ذو القرنين السد فبقيت خارجه، فجميع الترك منهم. وعن قتادة: أنهم اثنان وعشرون قبيلة، بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين قبيلة فبقيت قبيلة واحدة فهم الترك سموا الترك لأنهم تركوا خارجين.
قال أهل التواريخ: أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث، فسام أبو العرب والعجم والروم، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج، قال ابن عباس في رواية عطاء: هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء. روي عن حذيفة مرفوعا: إن يأجوج أمة ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم يسيرون إلى خراب الدنيا. وقيل: هم ثلاثة أصناف، صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم عرضه وطوله سواء، عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف الأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم. أكلوه، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشارق وبحيرة طبرية.
وعن علي أنه قال: منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول.
وقال كعب: هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم.
وذكر وهب بن منبه: أن ذا القرنين كان رجلا من الروم ابن عجوز، فلما بلغ كان عبدا صالحا. قال الله له: إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض: إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك، وأمتان بينهما عرض الأرض: إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها تأويل، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج فقال ذو القرنين: بأي قوة أكابرهم؟ وبأي جمع أكاثرهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ قال الله عز وجل: إني سأطوفك وأبسط لك لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك.
فانطلق حتى أتى مغرب الشمس فوجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله، فكابرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى الله وعبادته فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته فجند من أهل المغرب جندا عظيما فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك، ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأمتين ثم أخذ ناحية الأرض اليسرى فأتى تاويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها، ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض، فلما دنا مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش لهم أنياب وأضراس كالسباع يأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلق في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم ولا شك أنهم سيملئون الأرض ويظهرون علينا ويفسدون فيها، فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال: ما مكني فيه ربي خير قال: أعدوا إلي الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم.
فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا لهم مخاليب كالأظفار في أيدينا وأنياب وأضراس كالسباع ولهم هدب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ويتقون به من الحر والبرد ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى يصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا، فلما عاين ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس يذاب فيصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض.
قوله تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} قال الكلبي: فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه ولا شيئا يابسا إلا احتملوا وأدخلوه أرضهم وقد لقوا منهم أذى شديدا وقتلا.
وقيل: فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس.
وقيل: معناه أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم.
{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} قرأ حمزة والكسائي {خراجا} بالألف وقرأ الآخرون {خَرْجًا} بغير ألف وهما لغتان بمعنى واحد أي جعلا وأجرا من أموالنا.
وقال أبو عمرو: الخرج: ما تبرعت به والخراج: ما لزمك أداؤه. وقيل: الخراج: على الأرض والخرج: على الرقاب. يقال: أد خرج رأسك وخراج مدينتك.
{عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} أي حاجزا فلا يصلون إلينا.

{قَالَ} لهم ذو القرنين: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ} قرأ ابن كثير {مكنني} بنونين ظاهرين، وقرأ الآخرون بنون واحدة مشددة على الإدغام، أي: ما قواني عليه {رَبِّي خَيْرٌ} من جعلكم {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} معناه: إني لا أريد المال بل أعينوني بأبدانكم وقوتكم {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} أي: سدا، قالوا وما تلك القوة؟ قال: فعلة وصناع يحسنون البناء والعمل والآلة، قالوا: وما تلك الآية؟ قال:


{آتُونِي} أعطوني وقرأ أبو بكر: {ائتوني} أي جيئوني {زُبَرَ الْحَدِيدِ} أي قطع الحديد واحدتها زبرة، فأتوه بها وبالحطب وجعل بعضها على بعض، فلم يزل يجعل الحديد على الحطب والحطب على الحديد {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب: بضم الصاد والدال وجزم أبو بكر الدال وقرأ الآخرون بفتحها وهما الجبلان ساوى: أي سوى بين طرفي الجبلين.
{قَالَ انْفُخُوا} وفي القصة: أنه جعل الفحم والحطب في خلال زبر الحديد، ثم قال: انفخوا، يعني: في النار.
{حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} أي صار الحديد نارا، {قَالَ آتُونِي} قرأ حمزة وأبو بكر وصلا وقرأ الآخرون بقطع الألف. {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أي: آتوني قطرا أفرغ عليه، والإفراغ: الصب والقطر: هو النحاس المذاب فجعلت النار تأكل الحطب ويصير النحاس مكان الحطب حتى لزم الحديد النحاس.
قال قتادة: هو كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء. وفي القصة: أن عرضه كان خمسين ذراعا وارتفاعه مائتي ذراع وطوله فرسخ. {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} أن يعلوه من فوقه لطوله وملاسته {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} من أسفله لشدته ولصلابته وقرأ حمزة: {فَمَا اسْتَطَاعُوا} بتشديد الطاء أدغم تاء الافتعال في الطاء. {قَالَ} يعني ذا القرنين {هَذَا} أي السد {رَحْمَةٌ} أي: نعمة {مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} قيل: يوم القيامة وقيل: وقت خروجهم {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} قرأ أهل الكوفة {دَكَّاءَ} بالمد والهمز، أي: أرضا ملساء وقرأ الآخرون بلا مد أي: جعله مدكوكا مستويا مع وجه الأرض {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} وروى قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة يرفعه: «أن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده الله كما كان حتى إذا بلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله واستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه فيخرجون على الناس، فيتبعون المياه ويتحصن الناس في حصونهم منهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع فيها كهيئة الدم فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون وإن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكرا».
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا محمد بن مهران الرازي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه جبير بن نفير عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: «ما شأنكم؟» قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال ذات غداة فخفضت فيه ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: «غير الدجال أخوفني عليكم؟ إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه اليمنى طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله! فاثبتوا» قلنا: يا رسول الله فما لبثه في الأرض؟ قال: «أربعون يوما يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم» قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال لا اقْدُرُوا له قدره قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: «كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنوا به ويستجيبوا له فيأمر السماء فتمطر الأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، قال: فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فيتبعه كنوزها كيعاسيب النخل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي باب دمشق بين مهرورتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان اللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقول: لقد كان بهذه مرة ماء ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرَّسْل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة».
وبهذا الإسناد حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا علي بن حجر السعدي حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر والوليد بن مسلم بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بهذا الإسناد نحو ما ذكرنا وزاد بعد قوله:- لقد كان بهذه مرة ماء- ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون: لقد قلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما.
وقال وهب: إنهم كانوا يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الخشب والشجر، ومن ظفروا به من الناس، ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل أنبأنا أحمد أنبأنا أبي أنبأنا إبراهيم عن الحجاج بن حجاج عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج».
وفي القصة: أن ذا القرنين دخل الظلمة فلما رجع توفي بشهر زور وذكر بعضهم: أن عمره كان نيفا وثلاثين سنة.

قوله عز وجل: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قيل: هذا عند فتح السد، يقول: تركنا يأجوج ومأجوج يموج، أي: يدخل بعضهم على بعض كموج الماء ويختلط بعضهم ببعض لكثرتهم.
وقيل: هذا عند قيام الساعة، يدخل الخلق بعضهم في بعض ويختلط إنسيهم بجنيهم حيارى. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} في صعيد واحد. {وَعَرَضْنَا} أبرزنا {جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} حتى يشاهدوها عيانا. {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ} أي: غشاء والغطاء: ما يغطى به الشيء ويستره {عَنْ ذِكْرِي} يعني: عن الإيمان والقرآن، وعن الهدى والبيان. وقيل: عن رؤية الدلائل.
{وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} أي: سمع القبول والإيمان، لغلبة الشقاوة عليهم.
وقيل: لا يعقلون وقيل: كانوا لا يستطيعون أي: لا يقدرون أن يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتلوه عليهم لشدة عداوتهم له، كقول الرجل: لا أستطيع أن أسمع من فلان شيئا لعداوته. قوله عز وجل: {أَفَحَسِبَ} أفظن {الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} أربابا يريد بالعباد: عيسى والملائكة كلا بل هم لهم أعداء ويتبرءون منهم.
قال ابن عباس: يعني الشياطين أطاعوهم من دون الله. وقال مقاتل: الأصنام سموا عبادا كما قال: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} [الأعراف- 194] وجواب هذا الاستفهام محذوف.
قال ابن عباس: يريد إني لأغضب لنفسي، يقول: أفظن الذين كفروا أن يتخذوا غيري أولياء وإني لا أغضب لنفسي ولا أعاقبهم.
وقيل: أفظنوا أنهم ينفعهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا} أي: منزلا قال ابن عباس: هي مثواهم. وقيل: النزل ما يهيأ للضيف يريد هي معدة لهم عندنا كالنزل للضيف.

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا} يعني: الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلا ونوالا فنالوا هلاكا وبوارا كمن يشتري سلعة يرجو عليها ربحا فخسر وخاب سعيه.
واختلفوا فيهم: قال ابن عباس وسعد بن أبي وقاص: هم اليهود والنصارى. وقيل: هم الرهبان. {الَّذِينَ} حبسوا أنفسهم في الصوامع. وقال علي بن أبي طالب: هم أهل حروراء {ضَلَّ سَعْيُهُمْ} بطل عملهم واجتهادهم {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أي عملا. {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} أي لا نجعل لهم خطرا وقدرا، تقول العرب: ما لفلان عندي وزن أي: قدر لخسته.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا أحمد عن محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا سعيد ابن مريم أنبأنا المغيرة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة»، وقال اقرؤوا ما شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}.
قال أبو سعيد الخدري: يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق