الأربعاء، 9 مايو 2012

ذو القرنين من تفسير ابوحيان


 تفسير البحر المحيط - ابو حيان المتوفي سنة 754 هـ



وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً  *  إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً  *  فَأَتْبَعَ سَبَباً  *  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً  * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً *  وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً  *  ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً  *  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً  *  كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً


الضمير في { ويسألونك } عائد على قريش أو على اليهود، والمشهور أن السائلين قريش حين دستها اليهود على سؤاله عن الروح، والرجل الطواف، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك. وذو القرنين هو الإسكندر اليوناني ذكره ابن إسحاق. وقال وهب: هو رومي وهل هو نبيّ أو عبد صالح ليس بنبي قولان. وقيل: كان ملَكاً من الملائكة وهذا غريب. قيل: ملك الدنيا مؤمنان سليمان وذو القرنين، وكافران نمروذ وبخت نصر، وكان بعد نمروذ. وعن عليّ كان عبداً صالحاً ليس بملك ولا نبيّ ضرب على قرنه الأيمن فمات في طاعة الله ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمي ذا القرنين. وقيل: طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها. وقيل: كان له قرنان أي ضفيرتان. وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس. وعن وهب لأنه ملك الروم وفارس وروى الروم والترك وعنه كانت صفيحتا رأسه من نحاس. وقيل: كان لتاجه قرنان. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. قال الزمخشري: ويجوز أن يسمى بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره انتهى. وقيل غير ذلك في تسميته ذا القرنين والمشهور أنه الإسكندر. وقال أبو الريحان البيروتي المنجم صاحب كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية: هو أبو بكر بن سمي بن عمير بن إفريقس الحميري، بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً
ملكاً علا في الأرض غير مبعد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي
أسباب ملك من كريم سيد
قال أبو الريحان: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلوا أسماؤهم من ذي كذي المنار، وذي يواس انتهى. والشعر الذي أنشده نسب أيضاً إلى تبع الحميري وهو:
قد كان ذو القرنين جدي مسلماً
وعن عليّ وابن عباس أن اسمه عبد الله بن الضحاك. وعن محمد بن عليّ بن الحسين عياش. وعن أبي خيثمة هو الصعب بن جابر بن القلمس. وقيل: مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث. وعن عليّ هو من القرن الأول من ولد يافث بن نوح. وعن الحسن: كان بعد ثمود وكان عمره ألف سنة وستمائة. وعن وهب: كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.

والخطاب في { عليكم } للسائلين إما اليهود وإما قريش على الخلاف الذي سبق في السائلين. وقوله { ذكراً } يحتمل أن يريد قرآناً وأن يريد حديثاً وخيراً، والتمكين الذي له { في الأرض } كونه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلها.

قال بعض المفسرين: والدليل على أنه الإسكندر أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وإلى أقصى المشرق وإلى أقصى الشمال، بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال، وهذا الذي بلغه ملك هذا الرجل هو نهاية المعمور من الأرض، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر، وأن لا يكون مختفياً، والملك الذي اسمه في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلاّ الإسكندر وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان مع طوائف ثم قصد ملوك العرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية ودان له العراقيون والقبط والبربر، ثم نحو دار ابن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حربه، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها.

وورد في الحديث: " إن الذين ملكوا الأرض أربعة مؤمنان: سليمان بن داود، وذو القرنين " وقد تقدم ذكر ذلك وثبت في علم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلاّ الإسكندر فوجب القطع أن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلفوس اليوناني. وقيل تمكينه في الأرض بالنبوة وإجراء المعجزات. وقيل: تمكينه بأن سخر له السحاب وحمله عليها وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء. وقيل: بكثرة أعوانه وجنوده والهيبة والوقار وقذف الرعب في أعدائه وتسهيل السير عليه وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها.

{ وآتيناه من كل شيء } أي يحتاج إليه في الوصول إلى أغراضه { سبباً } أي طريقاً موصلاً إليه، والسبب ما يتوصل به إني المقصود من علم أو قدرة أو آلة، فأراد بلوغ المغرب { فاتبع سبباً } يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق { فاتبع سبباً } وأراد بلوغ السدين { فاتبع سبباً } وأصل السبب الحبل، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود. وقال الحسن: بلاغاً إلى حيث أراد. وقرأ زيد بن علي والزهري والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والكوفيون وابن عامر { فاتبع } ثلاثتها بالتخفيف. وقرأ باقي السبعة بالتشديد والظاهر أنهما بمعنى واحد. وعن يونس بن حبيب وأبي زيد أنه بقطع الهمزة عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، وبوصلها إنما يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات.

وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاصي وابن عمر وعبد الله بن عمرو ومعاوية والحسن وزيد بن عليّ وابن عامر وحمزة والكسائي حامية بالياء أي حارة.
وقرأ ابن عباس وباقي السبعة وشيبة وحميد وابن أبي ليلى ويعقوب وأبو حاتم وابن جبير الأنطاكي { حمئة } بهمزة مفتوحة والزهري يلينها، يقال حمئت البئر تحمأ حمأً فهي حمئة، وحمأتها نزعت حمأتها وأحمأتها أبقيت فيها الحمأة، ولا تنافي بين الحامية والحمئة إذ تكون العين جامعة للوصفين. وقال أبو حاتم: وقد تمكن أن تكون حامية مهموزة بمعنى ذات حمأة فتكون القراءتان بمعنى واحد يعني إنه سهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسرة ما قبلها، وفي التوراة تغرب في ماء وطين. وقال تبع:
فرأى مغيب الشمس عند مآبها
في عين ذي خلب وثاط حرمد
أي في عين ماء ذي طين وحم أسود. وفي حديث أبي ذر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال: «أتدري أين تغرب يا أبا ذر؟» فقلت: لا. فقال: «إنها تغرب في عين حامية» " وهذا الحديث وظاهر النص دليل على أن قوله { في عين } متعلق بقوله { تغرب } لا ما قاله بعض المتعسفين أن قوله في { عين حمئة } إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها أي هي آخر الأرض، ومعنى { تغرب في عين } أي فيما ترى العين لا أن ذلك حقيقة كما نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض، ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها، وزعم بعض البغداديين أن { في } بمعنى عند أي { تغرب } عند عين.

{ ووجد عندها قوماً } أي عند تلك العين. قال ابن السائب: مؤمنين وكافرين. وقال غيره: كفرة لباسهم جلود السباع وطعامهم ما أحرقته الشمس من الدواب، وما لفظته العين من الحوت إذا غربت. وقال وهب: انطلق يؤم المغرب إلى أن انتهى إلى باسك فوجد جمعاً لا يحصيهم إلاّ الله، فضرب حولهم ثلاثة عساكر حتى جمعهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم في النور ودعاهم إلى عبادة الله، فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه. وقال أبو زيد السهيلي: هم أهل حابوس ويقال لها بالسريانية جرجيساً يسكنها قوم من نسل ثمود. بقيتهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام.

وظاهر قوله { قلنا } أنه أوحى الله إليه على لسان ملك. وقيل: كلمه كفاحاً من غير رسول كما كلم موسى عليه السلام، وعلى هذين القولين يكون نبياً ويبعد ما قاله بعض المتأولين أنه إلهام وإلقاء في روعه لأن مثل هذا التخيير لا يكون إلاّ بوحي إذ التكاليف وإزهاق النفوس لا تتحقق بالإلهام إلاّ بالإعلام. وقال عليّ بن عيسى: المعنى { قلنا } يا محمد قالوا { يا ذا القرنين } ثم حذف القول الأول لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله، وعلى هذا يكون الضمير الذي في قالوا. المحذوفة يعود على جنده وعسكره الذين كانوا معه.

وقوله { إما أن تعذب } بالقتل على الكفر { وإما أن تتخذ فيهم حسناً } أي بالحمل على الإيمان والهدى، إما أن تكفر فتعذب، وإما أن تؤمن فتحسن فعبر في التخيير بالمسبب عن السبب. قال الطبري: اتخاذ الحسن هو أسرهم مع كفرهم يعني أنه خير مع كفرهم بين قتلهم وبين أسرهم، وتفصيل ذي القرنين { أما من ظلم } و { أما من آمن } يدفع هذا القول ولما خيره تعالى بين تعذيبهم ودعائهم إلى الإسلام اختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم. فقال: أما من دعوته فأبى إلاّ البقاء على الظلم وهو الكفر هنا بلا خلاف فذلك هو المعذب في الدارين، وأما من آمن وعمل ما يقتضيه الإيمان فله جزاء الحسنى. وأتى بحرف التنفيس في { فسوف نعذبه } لما يتخلل بين إظهاره كفره وبين تعذيبه من دعائه إلى الإيمان وتأبيه عنه، فهو لا يعاجلهم بالقتل على ظلمهم بل يدعوهم ويذكرهم فإن رجعوا وإلاّ فالقتل.

وقوله { ثم يرد إلى ربه } أي يوم القيامة وأتى بنون العظمة في { نعذبه } على عادة الملوك في قولهم نحن فعلنا. وقوله { إلى ربه } فيه إشعار بأن التخيير لذي القرنين ليس من الله تعالى، إذ لو كان كذلك لكان التركيب ثم يرد إليك فتعذبه، ولا يبعد أن يكون التخيير من الله ويكون قد أعلم ذو القرنين بذلك أتباعه ثم فصل مخاطباً لأتباعه لا لربه تعالى، وما أحسن مجيء هذه الجمل لما ذكر ما يستحقه من ظلم بدأ بما هو أقرب لهم ومحسوس عندهم، وهو قوله { فسوف نعذبه } ثم أخبر بما يلحقه آخراً يوم القيامة وهو تعذيب الله إياه العذاب النكر ولأن الترتيب الواقع هو كذا ولما ذكر ما يستحقه { من آمن وعمل صالحاً } ذكر جزاء الله له في الآخرة وهو { الحسنى } أي الجنة لأن طمع المؤمن في الآخرة ورجاءه هو الذي حمله على أن آمن لأجل جزائه في الآخرة، وهو عظيم بالنسبة للإحسان في الدنيا ثم أتبع ذلك بإحسانه له في الدنيا بقوله { وسنقول له من أمرنا يسراً } أي لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاق عليه أي قولاً ذا يسر وسهولة كما قال قولاً ميسوراً. ولما ذكر ما أعد الله له من الحسنى جزاء لم يناسب أن يذكر جزاءه بالفعل بل اقتصر على القول أدباً مع الله تعالى وإن كان يعلم أنه يحسن إليه فعلاً وقولاً.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومحمد بن جرير { فله جزاء } بالنصب والتنوين وانتصب { جزاء } على أنه مصدر في موضع الحال أي مجازي كقولك في الدار قائماً زيد. وقال أبو علي قال أبو الحسن: هذا لا تكاد العرب تكلم به مقدماً إلاّ في الشعر.
وقيل: انتصب على المصدر أي يجزي { جزاء }. وقال الفراء: ومنصوب على التفسير والمراد بالحسنى على قراءة النصب الجنة. وقرأ باقي السبعة { جزاء الحسنى } برفع { جزاء } مضافاً إلى { الحسنى }. قال أبو عليّ جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو يراد بالحسنى الحسنة والجنة هي الجزاء، وأضاف كما قال دار الآخرة و { جزاء } مبتدأ وله خبره.

وقرأ عبد الله بن إسحاق { فله جزاء } مرفوع وهو مبتدأ وخبر و { الحسنى } بدل من { جزاء }. وقرأ ابن عباس ومسروق { جزاء } نصب بغير تنوين { الحسنى } بالإضافة، ويخرج على حذف المبتدأ لدلالة المعنى عليه، أي { فله } الجزاء { جزاء الحسنى } وخرجه المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو جعفر { يسراً } بضم السين حيث وقع.

{ ثم أتبع سبباً } أي طريقاً إلى مقصده الذي يسر له. وقرأ الحسن وعيسى وابن محيصن { مطلع } بفتح اللام، ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو القياس. وقرأ الجمهور بكسرها وهو سماع في أحرف معدودة، وقياس كسره أن يكون المضارع تطلع بكسر اللام وكان الكسائي يقول: هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب، يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي { مطلع } بكسرها في اسم المكان والزمان على ذلك القياس، والقوم هنا الزنج. وقال قتادة هم الهنود وما وراءهم. والستر البنيان أو الثياب أو الشجر والجبال أقوال، والمعنى أنهم لا شيء لهم يسترهم من حر الشمس. وقيل: تنفذ الشمس سقوفهم وثيابهم فتصل إلى أجسامهم. فقيل: إذا طلعت نزلوا الماء حتى ينكسر حرها قاله الحسن وقتادة وابن جريج. وقيل: يدخلون أسراباً. وقال مجاهد: السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض. قال ابن عطية: والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم، وفعلها بقدرة الله فيهم ونيلها منهم، ولو كانت لهم أسراب لكان ستراً كثيفاً انتهى. وقال بعض الرجاز:
بالزنج حرّ غير الأجسادا
حتى كسى جلودها سوادا
وذلك إنما هو من قوة حرّ الشمس عندهم واستمرارها. كذلك الإشارة إلى البلوغ أي كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها. وقيل { أتبع سبباً } كما { أتبع سبباً }. وقيل: كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم كذلك وجد هؤلاء عند مطلع الشمس وحكم فيهم. وقيل: كذلك أمرهم كما قصصنا عليكم. وقيل: { تطلع } طلوعها مثل غروبها. وقيل: { لم نجعل لهم من دونها ستراً } أي مثل أولئك الذين وجدهم في مغرب الشمس كفرة مثلهم، وحكمهم مثل حكمهم في التعذيب لمن بقي على الكفر والإحسان لمن آمن.

وقال الزمخشري: { كذلك } أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيماً لأمره. وقيل { لم نجعل لهم من دونها ستراً } مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس، والثياب من كل صنف. وقال ابن عطية: { كذلك } معناه فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب، وأخبر بقوله { كذلك } ثم أخبر تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين وما تصرّف فيه من أفعاله، ويحتمل أن يكون { كذلك } استئناف قول ولا يكون راجعاً على الطائفة الأولى فتأمله، والأول أصوب انتهى. وإذا كان مستأنفاً لا تعلق له بما قبله فيحتاج إلى تقدير يتم به كلاماً.

  ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً   *   حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً   *   قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً   *   قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً   *   آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً   *   فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً   *   قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً   *   وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً   *   وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً   *   ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً   *   أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيۤ أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً 
السد الحاجز والحائل بين الشيئين، ويقال بالضم وبالفتح. الردم: السد. وقيل: الردم أكبر من السد لأن الردم ما جعل بعضه على بعض، يقال: ثوب مردّم إذا كان قد رقع رقعة فوق رقعة. وقيل: سد الخلل، قال عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم                   
أي خلل في المعاني فيسد ردماً. الزبرة: القطعة وأصله الاجتماع، ومنه زبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر، وزبرت الكتاب جمعت حروفه. الصدفان جانبا الجبل إذا تحاذيا لتقاربهما أو لتلاقيهما قاله الأزهري، ويقال: صدف بضمهما وبفتحهما وبضم الصاد وسكون الدال وعكسه. قال بعض اللغويين: وفتحهما لغة تميم وضمهما لغة حمير. وقال أبو عبيدة: الصدف كل بناء عظيم مرتفع. القطر النحاس المذاب في قول الأكثرين. وقيل: الحديد المذاب. وقيل: الرصاص المذاب. النقب مصدر نقب أي حفر وقطع. الغطاء معروف وجمعه أغطية، وهو من غطى إذا ستر.

{ ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدّين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً ءاتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال ءاتوني أفرغ عليه قطراً فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا }.

{ سبباً } أي طريقاً أو مسيراً موصلاً إلى الشمال فإن { السدّين } هناك. قال وهب: السدّان جبلان منيفان في السماء من ورائهما ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطع أرض الترك مما يلي أرمينية وأذربيجان. وذكر الهروي أنهما جبلان من وراء بلاد الترك. وقيل: هما جبلان من جهة الشمال لينان أملسان، يزلق عليهما كل شيء، وسمي الجبلان سدّين لأن كل واحد منهما سد فجاج الأرض وكانت بينهما فجوة كان يدخل منها يأجوج ومأجوج. وقرأ مجاهد وعكرمة والنخعي وحفص وابن كثير وأبو عمرو { بين السدين } بفتح السين. وقرأ باقي السبعة بضمها. قال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد. وقال الخليل وسيبويه: بالضم الاسم وبالفتح المصدر. وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة: ما كان من خلق الله لم يشارك فيه أحد فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فبالفتح.
وقال ابن أبي إسحاق ما رأت عيناك فبالضم، وما لا يرى فبالفتح. وانتصب { بين } على أنه مفعول به يبلغ كما ارتفع في
{ لقد تقطع بينكم }
[الأنعام: 94] وانجر بالإضافة في
{ هذا فراق بيني وبينك }
[الكهف: 78] و { بين } من الظروف المتصرفة ما لم تركب مع أخرى مثلها، نحو قولهم همزة بين بين.

{ من دونهما } من دون السدين و { قوماً } يعني من البشر. وقال الزمخشري: هم الترك انتهى. وأبعد من ذهب إلى أنهم جان. قال الزمخشري: وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق، ونفى مقارنة فقههم { قولاً } وتضمن نفي فقههم. وقال الزمخشري: لا يكادون يفهمونه إلاّ بجهد ومشقة كأنه فهم من نفى يكاد أنه يقع منهم الفهم بعد عسر، وهو قول لبعضهم إن نفيها إثبات وإثباتها نفي، وليس بالمختار.

وقرأ الأعمش وابن أبي ليلى وخلف وابن عيسى الأصبهاني وحمزة والكسائي { يفقهون } بضم الياء وكسر القاف أي يفهمون السامع كلامهم، ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة. والضمير في { قالوا } عائد على هؤلاء القوم شكوا ما يلقون من يأجوج ومأجوج إذ رجوا عنده ما ينفعهم لكونه ملك الأرض ودوخ الملوك وبلغ إليهم وهم لم يبلغ أرضهم ملك قبله، و { يأجوج ومأجوج } من ولد آدم قبيلتان. وقيل: هما من ولد يافث بن نوح. وقيل: { يأجوج } من الترك { ومأجوج } من الجيل والديلم. وقال السدي والضحاك: الترك شرذمة منهم خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب. وقال قتادة والسدي: بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك وقد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء وهما ممنوعا الصرف، فمن زعم أنهما أعجميان فللعجمة والعلمية، ومن زعم أنهما عربيان فللتأنيث والعلمية لأنهما اسما قبيلتين.

وقال الأخفش: إن جعلنا ألفهما أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول، كأنه من أجيج النار ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فيأجوج من يججت، ومأجوج من مججت. وقال قطرب في غير الهمز مأجوج فاعول من المج، ويأجوج فاعول من يج. وقال أبو الحسن عليّ بن عبد الصمد السخاوي أحد شيوخنا: الظاهر أنه عربي وأصله الهمز، وترك الهمز على التخفيف وهو إما من الأجّة وهو الاختلاف كما قال تعالى { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } [الكهف: 99] أو من الأج وهو سرعة العدو، قال تعالى
{ وهم من كل حدب ينسلون }
[الأنبياء: 96] وقال الشاعر:
يؤج كما أج الظليم المنفر                   
أو من الأجة وهو شدة الحرّ، أو من أجّ الماء يئج أجوجاً إذا كان ملحاً مراً انتهى. وقرأ عاصم والأعمش ويعقوب في رواية بالهمز وفي { يأجوج ومأجوج } وكذا في الأنبياء وفي لغة بني أسد ذكره الفراء. قيل: ولا وجه له إلاّ اللغة الغربية المحكية عن العجاج أنه كان يهمز العألم والخأتم. وقرأ باقي السبعة بألف غير مهموزة وهي لغة كل العرب غير بني أسد.
وقرأ العجاج ورؤبة ابنه: آجوج بهمزة بدل الياء. وإفسادهم الظاهر تحقق الإفساد منهم لا توقعه لأنها شكت من ضررنا لها. وقال سعيد بن عبد العزيز: إفسادهم أكل بني آدم. وقيل: هو الظلم والقتل ووجوه الإفساد المعلوم من البشر. وقيل: كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلاّ أكلوه، ولا يابساً إلاّ احتملوه، وروي أنه لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلٌّ قد حمل السلاح.

{ فهل نجعل لك خرجاً } استدعاء منهم قبول ما يبذلونه مما يعينه على ما طلبوا على جهة حسن الأدب إذ سألوه ذلك كقول موسى للخضر
{ هل أتبعك على أن تعلمن }
[الكهف: 66]. وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومن السبعة حمزة والكسائي خراجاً بألف هنا، وفي حرفي قد أفلح وسكن ابن عامر الراء فيها. وقرأ باقي السبعة { خرجاً } فيهما بسكون الراء فخراج بالألف والخرج والخراج بمعنى واحد كالنول والنوال، والمعنى جعلا نخرجه من أموالنا، وكل ما يستخرج من ضريبة وجزية وغلة فهو خراج وخرج. وقيل: الخرج المصدر أطلق على الخراج، والخراج الاسم لما يخرج. وقال ابن الأعرابي: الخرج على الرؤوس يقال: أدّ خرج رأسك، والخراج على الأرض. وقال ثعلب: الخرج أخص والخراج أعم. وقيل: الخرج المال يخرج مرة والخراج المجبي المتكرر عرضوا عليه أن يجمعوا له أموالاً يقيم بها أمر السد. وقال ابن عباس { خرجاً } أجراً.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر { سداً } بضم السين وابن محيصن وحميد والزهري والأعمش وطلحة ويعقوب في رواية وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وباقي السبعة بفتحها { قال ما مكني فيه ربي خير } أي ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم { فأعينوني بقوة } أي بما أتقوّى به من فعلة وصناع يحسنون العمل والبناء؛ قاله مقاتل وبالآلات؛ قاله الكلبي { ردماً } حاجزاً حصيناً موثقاً. وقرأ ابن كثير وحميد: ما مكنني بنونين متحركتين، وباقي السبعة بإدغام نون مكن في نون الوقاية.

ثم فسر الإعانة بالقوة فقال { آتوني زبر الحديد } أي أعطوني. قال ابن عطية: إنما هو استدعاء مناولة لا استدعاء عطية وهبة لأنه قد ارتبط من قوله إنه لا يأخذ منهم الخراج، فلم يبق إلاّ استدعاء المناولة انتهى. وقرأ الجمهور { آتوني }. وقرأ أبو بكر عن عاصم ائتوني أي جيئوني. وانتصب { زبر } بإيتوني على إسقاط حرف الجر أي جيئوني بزبر { الحديد }. وقرأ الجمهور { زبر } بفتح الباء والحسن بضمها، وفي الكلام حذف تقديره فأتوه أو فآتوه بها فأمر برصّ بعضها فوق بعض { حتى إذا ساوى }.

وقرأ الجمهور { ساوى } وقتادة سوّى، وابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم سُووي مبنياً للمفعول. وحكي في الكيفية أن ذا القرنين قاس ما بين الصدفين من حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل حشوه الصخر وطينه النحاس مذاب، ثم يصب عليه والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً.
وقيل: طول ما بين السدين مائة فرسخ وعرضه خمسون. وفي الحديث " أن رجلاً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فقال: «كيف رأيته»؟ فقال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: «قد رأيته» "

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن { الصدفين } بضم الصاد والدال، وأبو بكر وابن محيصن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن كذلك إلاّ أنه سكن الدال وباقي السبعة وأبو جعفر وشيبة وحميد وطلحة وابن أبي ليلى وجماعة عن يعقوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وابن سعدان بفتحهما، وابن جندب بالفتح وإسكان الدال، ورويت عن قتادة. وقرأ الماجشون بالفتح وضم الدال. وقرأ قتادة وأبان عن عاصم بضم الصاد وفتح الدال { حتى إذا جعله ناراً } في الكلام حذف تقديره فنفخوا حتى. وقرأ الجمهور قال { آتوني } أي أعطوني. وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه قال: ائتوني أي جيئوني و { قطراً } منصوب بأفرغ على إعمال الثاني، ومفعول { آتوني } محذوف لدلالة الثاني عليه.

{ فما اسطاعوا } أي يأجوج ومأجوج { أن يظهروه } أي يصلوا عليه لبعده وارتفاعه وامّلاسه، ولا أن ينقبوه لصلابته وثخانته فلا سبيل إلى مجاوزته إلى غيرهم من الأمم إلاّ بأحد هذين: إما ارتقاء وإما نقب وقد سلب قدرتهم على ذلك.

وقرأ الجمهور { فما اسطاعوا } بحذف التاء تخفيفاً لقربها من الطاء. وقرأ حمزة وطلحة بإدغامها في الطاء وهو إدغام على غير حده. وقال أبو عليّ هي غير جائزة. وقرأ الأعشى عن أبي بكر: فما اصطاعوا بالإبدال من السين صاداً لأجل الطاء. وقرأ الأعمش: فما استطاعوا بالتاء من غير حذف.

{ قال: هذا رحمة من ربي } أي قال ذو القرنين والإشارة بهذا قال ابن عطية إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به. وقال الزمخشري: إشارة إلى السد أي { هذا } السد نعمة من الله و { رحمة } على عباده أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته. قيل: وفي الكلام حذف وتقديره فلما أكمل بناء السد واستوى واستحكم { قال: هذا رحمة من ربي }.

وقرأ ابن أبي عبلة هذه رحمة من ربي بتأنيث اسم الإشارة. والوعد يحتمل أن يراد به يوم القيامة، وأن يراد به وقت خروج يأجوج ومأجوج. وقال الزمخشري: فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي جعل السد دكاً أي مدكوكاً منبسطاً مستوياً بالأرض، وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك انتهى. وقرأ الكوفيون: { دكاء } بالمدّ ممنوع الصرف وباقي السبعة دكاً منونة مصدر دككته، والظاهر أن { جعله } بمعنى صيره فدك مفعول ثان.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون جعل بمعنى خلق وينصب فدكاً على الحال انتهى. وهذا بعيد جداً لأن السد إذ ذاك موجود مخلوق ولا يخلق المخلوق لكنه ينتقل من بعض هيئاته إلى هيئة أخرى، ووعد بمعنى موعود لا مصدر. والمعنى { فإذا جاء } موعود { ربي } لا يريد المصدر لأن المصدر قد سبق و { تركنا } هذا الضمير لله تعالى والأظهر أن الضمير في { بعضهم } عائد على يأجوج ومأجوج، والجملة المحذوفة بعد إذ المعوض منها التنوين مقدرة بإذ جاء الوعد وهو خروجهم وانتشارهم في الأرض أو مقدرة بإذ حجز السد بينهم وبين القوم الذين كانوا يفسدون عندهم وهم متعجبون من السد فماج بعضهم في بعض.

وقيل: الضمير في { بعضهم } يعود على الخلق أي يوم إذ جاء وعد الله وهو يوم القيامة ويقويه قوله { ونفخ في الصور } فيظهر أن ذلك هو يوم القيامة، وكذلك ما جاء بعده من الجمع وعرض جهنم وتقدم الكلام على النفخ في الصور في سورة الأنعام. و { جمعاً } مصدر كموعد { وعرضنا } أي أبرزنا { جهنم يومئذ } أي يوم إذ جمعناهم. وقيل: اللام بمعنى على كقوله:
فخر صريعاً لليدين وللفم                   
وأبعد من ذهب إلى أنه مقلوب. والتقدير وعرضنا الكافرين على جهنم { عرضاً } وتخصيصه بالكافرين بشارة للمؤمنين. و { الذين كانت أعينهم } صفة ذم في { غطاءٍ } استعار الغطاء لأعينهم، والمراد أنهم لا يبصرون آياتي التي ينظر إليها فيعتبر بها، واذكر بالتعظيم وهذا على حذف مضاف أي عن آيات { ذكري }. وقيل { عن ذكري } عن القرآن وتأمل معانيه، ويكون المراد بالأعين هنا البصائر لا الجوارح لأن الجوارح لا نسبة بينها وبين الذكر { وكانوا لا يستطيعون سمعاً } مبالغة في انتفاء السمع إذ نفيت الاستطاعة، وهم وإن كانوا صماً لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به، وكان هؤلاء أصمت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع { أفحسب الذين كفروا } هم من عبد الملائكة وعزيراً والمسيح واتخذوهم أولياء من دون الله وهم بعض العرب واليهود والنصارى، وهو استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ، والمعنى أنهم ليس لهم من ولاية هؤلاء الذين تولوهم شيء، ولا يجدون عندهم منتفعاً ويظهر أن في الكلام حذفاً والتقدير { أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء } فيجدي ذلك وينتفعون بذلك الاتخاذ. وقيل: العباد هنا الشياطين. روي عن ابن عباس وقال مقاتل: الأصنام لأنها خلقه وملكه، والأظهر تفسير العباد بما قلناه لإضافتهم إليه والأكثر أن تكون الإضافة في مثل هذا اللفظ إضافة تشريف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق