الأربعاء، 4 أبريل 2012

ذو القرنين من تفسير الرازي

الرازي =تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)

)وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } * { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً  * فَأَتْبَعَ سَبَباً  

اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيها مسائل:

المسألة الأولى: قد ذكرنا في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح فالمراد من قوله:
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ٱلْقَرْنَيْنِ   
[الكهف: 83] هو ذلك السؤال.

المسألة الثانية: اختلف الناس في أن ذا القرنين من هو وذكروا فيه أقوالاً: الأول: أنه هو الاسكندر بن فيلبوس اليوناني قالوا والدليل عليه أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب بدليل قوله:
 حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ 
[الكهف: 86] وأيضاً بلغ ملكه أقصى المشرق بدليل قوله:
 حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ 
[الكهف: 90] وأيضاً بلغ ملكه أقصى الشمال بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال، وبدليل أن السد المذكور في القرآن يقال في كتب التواريخ إنه مبني في أقصى الشمال فهذا الإنسان المسمى بذي القرنين في القرآن قد دل القرآن على أن ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق وهذا هو تمام القدر المعمور من الأرض، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر وأن لا يبقى مخفياً مستتراً، والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف ثم جمع ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر. ثم توجه نحو دارا بن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها. فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض بالكلية، أو ما يقرب منها، وثبت بعلم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني ثم ذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم وجوهاً: الأول: أنه لقب بهذا اللقب لأجل بلوغه قرني الشمس أي مطلعها ومغربها كما لقب أردشير بن بهمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد. والثاني: أن الفرس قالوا: إن دارا الأكبر كان قد تزوج بابنة فيلبوس فلما قرب منها وجد منها رائحة منكرة فردها على أبيها فيلبوس وكانت قد حملت منه بالإسكندر فولدت الإسكندر بعد عودها إلى أبيها فبقي الإسكندر عند فيلبوس وأظهر فيلبوس أنه ابنه وهو في الحقيقة ابن دارا الأكبر قالوا والدليل عليه أن الإسكندر لما أدرك دارا بن دارا وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال لدارا: يا أبي أخبرني عمن فعل هذا لأنتقم لك منه! فهذا ما قاله الفرس قالوا وعلى هذا التقدير فالإسكندر أبوه دارا الأكبر وأمه بنت فيلبوس فهو إنما تولد من أصلين مختلفين الفرس والروم وهذا الذي قاله الفرس إنما ذكروه لأنهم أرادوا أن يجعلوه من نسل ملوك العجم حتى لا يكون ملك مثله من نسب غير نسب ملوك العجم وهو في الحقيقة كذب، وإنما قال الإسكندر لدارا يا أبي على سبيل التواضع وأكرم دارا بذلك الخطاب.
والقول الثاني: قال أبو الريحان الهروي المنجم في كتابه الذي سماه بالآثار الباقية عن القرون الخالية، قيل: إن ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عبير بن أفريقش الحميري فإنه بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما
   
ملكاً علا في الأرض غير مفندي
بلغ المشارق والمغارب يبتغي
   
أسباب ملك من كريم سيد
ثم قال أبو الريحان ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلو أساميهم من ذي كذا كذي النادي وذي نواس وذي النون وغير ذلك. والقول الثالث: أنه كان عبداً صالحاً ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة، وإن كنا لا نعرف أنه من هو ثم ذكروا في تسميته بذي القرنين وجوهاً: الأول: سأل ابن الكوا علياً رضي الله عنه عن ذي القرنين وقال أملك هو أم نبي فقال: لا ملك ولا نبي كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي بذي القرنين وملك ملكه. الثاني: سمي بذي القرنين لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس. الثالث: قيل كان صفحتا رأسه من نحاس. الرابع: كان على رأسه ما يشبه القرنين. الخامس: (كان) لتاجه قرنان. السادس: عن النبي صلى الله عليه وسلم سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا يعني شرقها وغربها. السابع: كان له قرنان أي ضفيرتان. الثامن: أن الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمده الظلمة من ورائه. التاسع: يجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه. العاشر: رأى في المنام كأنه صعد الفلك فتعلق بطرفي الشمس وقرنيها وجانبيها فسمي لهذا السبب بذي القرنين.
الحادي عشر: سمي بذلك لأنه دخل النور والظلمة. والقول الرابع: أن ذا القرنين ملك من الملائكة عن عمر أنه سمع رجلاً يقول: يا ذا القرنين فقال: اللهم اغفر. أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسموا بأسماء الملائكة! فهذا جملة ما قيل في هذا الباب، والقول الأول أظهر لأجل الدليل الذي ذكرناه وهو أن مثل هذا الملك العظيم يجب أن يكون معلوم الحال عند أهل الدنيا والذي هو معلوم الحال بهذا الملك العظيم هو الإسكندر فوجب أن يكون المراد بذي القرنين هو هو إلا أن فيه إشكالاً قوياً وهو أنه كان تلميذ أرسططاليس الحكيم وكان على مذهبه فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسططاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه، والله أعلم.

المسألة الثالثة: اختلفوا في ذي القرنين هل كان من الأنبياء أم لا؟ منهم من قال: إنه كان نبياً واحتجوا عليه بوجوه. الأول: قوله: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى ٱلأَرْضِ } والأولى حمله على التمكين في الدين والتمكين الكامل في الدين هو النبوة. والثاني: قوله: { وَآتَيْنَـٰهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً } ومن جملة الأشياء النبوة فمقتضى العموم في قوله: { وَآتَيْنَـٰهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً } هو أنه تعالى آتاه في النبوة سبباً. الثالث: قوله تعالى: { قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبياً ومنهم من قال إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً.

المسألة الرابعة: في دخول السين في قوله: { سَأَتْلُواْ } معناه إني سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى عليه وأنزل فيه وحياً وأخبرني عن كيفية تلك الحال، وأما قوله تعالى: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى ٱلأَرْضِ } فهذا التمكين يحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب النبوة ويحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب الملك من حيث إنه ملك مشارق الأرض ومغاربها والأول أولى لأن التمكين بسبب النبوة أعلى من التمكين بسبب الملك وحمل كلام الله على الوجه الأكمل الأفضل أولى ثم قال: { وَآتَيْنَـٰهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً } قالوا: السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود وهو يتناول العلم والقدرة والآلة فقوله: { وآتَيْنَـٰهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً } معناه: أعطيناه من كل شيء من الأمور التي يتوصل بها إلى تحصيل ذلك الشيء ثم إن الذين قالوا: إنه كان نبياً قالوا: من جملة الأشياء النبوة فهذه الآية تدل على أنه تعالى أعطاه الطريق الذي به يتوصل إلى تحصيل النبوة، والذين أنكروا كونه نبياً قالوا: المراد به وآتيناه من كل شيء يحتاج إليه في إصلاح ملكه سبباً، إلا أن لقائل أن يقول: إن تخصيص العموم خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل، ثم قال: { فَأَتْبَعَ سَبَباً } ومعناه أنه تعالى لما أعطاه من كل شيء سببه فإذا أراد شيئاً أتبع سبباً يوصله إليه ويقربه منه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو فاتبع بتشديد التاء، وكذلك ثم اتبع أي سلك وسار والباقون فأتبع بقطع الألف وسكون التاء مخففة.
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } * { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } * { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً
اعلم أن المعنى أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً يوصله إليه حتى بلغه، أما قوله: { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ففيه مباحث:

الأول: قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في عين حامية بالألف من غير همزة أي حارة، وعن أبي ذر، قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال: أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تغرب في عين حامية؛ وهي قراءة ابن مسعود وطلحة وابن عامر، والباقون حمئة، وهي قراءة ابن عباس واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية بألف فقال ابن عباس حمئة، فقال معاوية لعبد الله بن عمر كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين كذلك نجده في التوراة، والحمئة ما فيه ماء، وحمأة سوداء، واعلم أنه لا تنافي بين الحمئة والحامية، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعاً.

البحث الثاني: أنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضاً قال: { وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً } ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض، إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله: { تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ } من وجوه. الأول: أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر، هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره. الثاني: أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء فقوله: { تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ } إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة. الثالث: قال أهل الأخبار: إن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة وهذا في غاية البعد، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفاً قمرياً فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا: حصل هذا الكسوف في أول الليل ورأينا المشرقيين قالوا: حصل في أول النهار فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث.

ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار. وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين وكلام الله تعالى مبرأ عن هذه التهمة، فلم يبق إلا أن يصار إلى التأويل الذي ذكرناه ثم قال تعالى: { وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً } الضمير في قوله عندها إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى الشمس ويكون التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس. والقول الثاني: أن يكون الضمير عائداً إلى العين الحامية، وعلى هذا القول فالتأويل ما ذكرناه، ثم قال تعالى: { قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } وفيه مباحث:

الأول: أن قوله تعالى: { قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } يدل على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة، وذلك يدل على أنه كان نبياً وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء فهو عدول عن الظاهر.

البحث الثاني: قال أهل الأخبار في صفة ذلك الموضع أشياء عجيبة، قال ابن جريج: هناك مدينة لها إثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجبة الشمس حين تغيب.

البحث الثالث: قوله تعالى: { قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } يدل على أن سكان آخر المغرب كانوا كفاراً فخير الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب لهم إن أقاموا على كفرهم وبين المن عليهم والعفو عنهم وهذا التخيير على معنى الاجتهاد في أصلح الأمرين كما خير نبيه عليه السلام بين المن على المشركين وبين قتلهم، وقال الأكثرون: هذا التعذيب هو القتل، وأما اتخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء، ثم قال ذو القرنين: { أَمَّا مَن ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي ظلم نفسه بالإقامة على الكفر. والدليل على أن هذا هو المراد أنه ذكر في مقابلته: { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً } ثم قال: { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } أي بالقتل في الدنيا: { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } أي منكراً فظيعاً: { وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَلَهُ جَزَاء ٱلْحُسْنَىٰ } قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: { جَزَاء ٱلْحُسْنَىٰ } بالنصب والتنوين والباقون بالرفع والإضافة، فعلى القراءة الأولى يكون التقدير فله الحسنى جزاء كما تقول لك هذا الثوب هبة، وأما على القراءة الثانية ففي التفسير وجهان. الأول: فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح. والثاني: أن يكون التقدير فله جزاء المثوبة الحسنى ويكون المعنى فله ذا الجزاء الذي هو المثوبة الحسنى والجزاء موصوف بالمثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله:
{ وَلَدَارُ ٱلأَخِرَةِ }
[الأنعام: 32] و
{ حَقُّ ٱلْيَقِينِ }
[الواقعة: 95] ثم قال: { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل الميسر من الزكاة والخراج وغيرهما وتقدير هذا يسر كقوله:
{ قَوْلاً مَّيْسُورًا }
[الإسراء: 28] وقرىء يسراً بضمتين.

{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } * { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } * { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً }

اعلم أنه تعالى لما بين أولاً أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مغرب الشمس أتبعه ببيان أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مطلع الشمس فبين الله تعالى أنه وجد الشمس تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً وفيه قولان. الأول: أنه ليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم فلهذا السبب إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب واغلة في الأرض أو غاصوا في الماء فيكون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش حالهم بالضد من أحوال سائر الخلق. والقول الثاني: أن معناه أنه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبداً ويقال في كتب الهيئة إن حال أكثر الزنج كذلك وحال كل من يسكن البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك، وذكر في كتب التفسير أن بعضهم قال: سافرت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم، فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه الواحدة ويلبس الأخرى ولما قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرباً لهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج ثم قال تعالى: { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } وفيه وجوه: الأول: أي كذلك فعل ذو القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به. والثاني: كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسوله عليه السلام في هذا الذكر. والثالث: كذلك كانت حالته مع أهل المطلع كما كانت مع أهل المغرب، قضى في هؤلاء كما قضى في أولئك، من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين. والرابع: أنه تم الكلام عند قوله كذلك والمعنى أنه تعالى قال: أمر هؤلاء القوم كما وجدهم عليه ذو القرنين ثم قال بعده: { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } أي كنا عالمين بأن الأمر كذلك.

{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } * { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } * { قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } * { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً }

علم أن ذا القرنين لما بلغ المشرق والمغرب أتبع سبباً آخر وسلك الطريق حتى بلغ بين السدين، وقد آتاه الله من العلم والقدرة ما يقوم بهذه الأمور. وههنا مباحث:

الأول: قرأ حمزة والكسائي السدين بضم السين وسداً بفتحها حيث كان، وقرأ حفص عن عاصم بالفتح فيهما في كل القرآن، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالضم فيهما في كل القرآن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو السدين وسداً ههنا بفتح السين فيهما وضمها في يس في الموضعين قال الكسائي: هما لغتان، وقيل: ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بفتح السين، وما كان من صنع الله فهو السد بضم السين والجمع سدد، وهو قول أبي عبيدة وابن الأنباري، قال صاحب الكشاف: السد بالضم فعل بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه، والسد بالفتح مصدر حدث يحدثه الناس.

البحث الثاني: الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال، وقيل: جبلان بين أرمينية وبين أذربيجان، وقيل: هذا المكان في مقطع أرض الترك، وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً إليه من ناحية الخزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع، وذكر ابن (خرداذبة) في كتاب المسالك والممالك أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند، قال أبو الريحان: مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة، والله أعلم بحقيقة الحال.

البحث الثالث: أن ذا القرنين لما بلغ ما بين السدين وجد من دونهما أي من ورائهما مجاوزاً عنهما { قَوْماً } أي أمة من الناس: { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } قرأ حمزة والكسائي { يفقهون } بضم الياء وكسر القاف على معنى لا يمكنهم تفهيم غيرهم والباقون بفتح الياء والقاف، والمعنى أنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم وما كانوا يفهمون اللسان الذي يتكلم به ذو القرنين، ثم قال تعالى: { قَالُواْ يا ذا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى ٱلأَرْضِ } فإن قيل: كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام بعد أن وصفهم الله بقوله: { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } والجواب: أن نقول كاد فيه قولان. الأول: أن إثباته نفي، ونفيه إثبات، فقوله: { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } لا يدل على أنهم لا يفهمون شيئاً، بل يدل على أنهم قد يفهمون على مشقة وصعوبة.
والقول الثاني: أن كاد معناه المقاربة، وعلى هذا القول فقوله: { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } أي لا يعلمون وليس لهم قرب من أن يفقهوا. وعلى هذا القول فلا بد من إضمار، وهو أن يقال: لا يكادون يفهمونه إلا بعد تقريب ومشقة من إشارة ونحوها، وهذه الآية تصلح أن يحتج بها على صحة القول الأول في تفسير كاد.

البحث الرابع: في يأجوج ومأجوج قولان: الأول: أنهما اسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف. والقول الثاني: أنهما مشتقان، وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز. وقرأ الباقون ياجوج وماجوج. وقرىء في رواية آجوج ومأجوج، والقائلون بكون هذين الاسمين مشتقين ذكروا وجوهاً. الأول: قال الكسائي: يأجوج مأخوذ من تأجج النار وتلهبها فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ومأجوج من موج البحر. الثاني: أن يأجوج مأخوذ من تأجج الملح وهو شدة ملوحته فلشدتهم في الحركة سموا بذلك. الثالث: قال القتيبي: هو مأخوذ من قولهم أج الظليم في مشيه يئج أجاً إذا هرول وسمعت حفيفه في عدوه. الرابع: قال الخليل: الأج حب كالعدس والمج مج الريق فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما واختلفوا في أنهما من أي الأقوام فقيل: إنهما من الترك، وقيل: { يَأْجُوجَ } من الترك { وَمَأْجُوجَ } من الجيل والديلم ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة بكون طول أحدهم شبراً ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبتوا لهم مخاليب في الأظفار وأضراساً كأضراس السباع واختلفوا في كيفية إفسادهم في الأرض فقيل: كانوا يقتلون الناس وقيل كانوا يأكلون لحوم الناس وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون لهم شيئاً أخضر وبالجملة فلفظ الفساد محتمل لكل هذه الأقسام، والله أعلم بمراده، ثم إنه تعالى حكى عن أهل ما بين السدين أنهم قالوا لذي القرنين: { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا } قرأ حمزة والكسائي خراجاً والباقون خرجاً. قيل: الخراج والخرج واحد، وقيل هما أمران متغايران، وعلى هذا القول اختلفوا: قيل: الخرج بغير ألف هو الجعل لأن الناس يخرج كل واحد منهم شيئاً منه فيخرج هذا أشياء وهذا أشياء، والخراج هو الذي يجبيه السلطان كل سنة. وقال الفراء: الخراج هو الاسم الأصلي والخرج كالمصدر وقال قطرب: الخرج الجزية والخراج في الأرض. فقال ذو القرنين: { مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى } أي ما جعلني مكيناً من المال الكثير واليسار الواسع خير مما تبذلون من الخراج فلا حاجة بي إليه، وهو كما قال سليمان عليه السلام:
{ فَمَا ءاتَـٰنِى ٱللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَـٰكُمْ }
[النمل: 36] قرأ ابن كثير: (ما مكنني) بنونين على الإظهار والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام، ثم قال ذو القرنين: { فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا } أي لا حاجة لي في مالكم ولكن { أعينوني } برجال وآلة أبني بها السد، وقيل المعنى: { أعينوني } بمال أصرفه إلى هذا المهم ولا أطلب المال لآخذه لنفسي، والردم هو السد. يقال: ردمت الباب أي سددته وردمت الثوب رقعته لأنه يسد الخرق بالرقعة والردم أكثر من السد من قولهم: ثوب مردوم أي وضعت عليه رقاع.

{ آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } * { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } * { قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً }

اعلم أن { زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ } قطعة قال الخليل الزبرة من الحديد القطعة الضخمة، قراءة الجميع آتوني بمد الألف إلا حمزة فإنه قرأ ائتوني من الإتيان، وقد روى ذلك عن عاصم والتقدير ائتوني بزبر الحديد ثم حذف الباء كقوله: شكرته وشكرت له وكفرته وكفرت له، وقوله: { حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ } فيه إضمار أي فأتوه بها فوضع تلك الزبر بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً، واعلم أن هذا معجز قاهر لأن هذه الزبر الكثيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان على القرب منها، والنفخ عليها لا يمكن إلا مع القرب منها فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها. قال صاحب الكشاف: قيل بعدما بين: { السَّدَّيْنِ } مائة فرسخ. { والصدفان } بفتحتين جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان وقرىء: { ٱلصَّدَفَيْنِ } بضمتين. { والصدفين } بضمة وسكون والقطر النحاس المذاب لأنه يقطر، وقوله: { قِطْراً } منصوب بقوله: { أَفْرِغْ } وتقديره آتوني قطراً: { أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ثم قال: { فَمَا ٱسْطَـٰعُواْ } فحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء وقرىء: { فَمَا اصطاعوا } بقلب السين صاداً { أَن يَظْهَرُوهُ } أن يعلوه أي ما قدروا على الصعود عليه لأجل ارتفاعه وملاسته ولا على نقبه لأجل صلابته وثخانته، ثم قال ذو القرنين: { هَـٰذَا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى } فقوله هذا إشارة إلى السد، أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده أو هذا الاقتدار والتمكين من تسويته: { فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى } يعني فإذا دنا مجيء القيامة جعل السد دكاً أي مدكوكاً مسوى بالأرض. وكل ما انبسط بعد الارتفاع فقد اندك وقرىء دكاء بالمد أي أرضاً مستوية { وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً } وههنا آخر حكاية ذي القرنين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق