الجمعة، 18 مايو 2012

ذو القرنين من تفسير ابو السعود


تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - ابو السعود متوفي سنة  951 هـ




وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً 

تنبـيه: اختلفوا في حياة الخضر عليه الصلاة والسلام، فقيل: إنه حيٌّ وسببُه أنه كان على مقدمة ذي القرنين فلما دخل الظلماتِ أصاب الخضرُ عينَ الحياة فنزل واغتسل منها وشرب من مائها وأخطأ ذو القرنين الطريقَ فعاد، قالوا: وإلياسُ أيضاً في الحياة يلتقيان كلَّ سنة بالموسم، وقيل: إنه ميتٌ لما رُوي أن النبـي عليه الصلاة والسلام صلى العشاءَ ذاتَ ليلة، ثم قال: " أرأيتَكم ليلتَكم هذه فإن رأسَ مائةِ سنة منها لا يبقي ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ ولو كان الخضرُ حينئذ حيًّا لما عاش بعد مائة عام " رُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يفارقه، قال له: أوصِني، قال: لا تطلب العلمَ لتحدّث به واطلبُه لتعمل به.

-  وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ٱلْقَرْنَيْنِ -  هم اليهودُ سألوه على وجه الامتحانِ، أو سألتْه قريشٌ بتلقينهم، وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجوابِ وهو ذو القرنين الأكبرُ واسمه (الإسكندرُ بنُ فيلفوس اليوناني)، وقال ابن إسحاق: اسمُه (مَرزُبانُ بنُ مردبةَ) من ولد يافثَ بنِ نوح عليه الصلاة والسلام وكان أسودَ، وقيل: اسمُه (عبد اللَّه بن الضحاك)، وقيل: (مصعبُ بنُ عبد اللَّه بنِ فينانَ بنِ منصور بنِ عبد اللَّه بن الآزَرِ بن عون بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرُبَ بن قحطانَ). وقال السهيلي: قيل: إن اسمه (مَرْزُبانُ بنُ مُدرِكةَ) ذكره ابن هشام وهو أول التبابِعة. وقيل: إنه أفريذون بنُ النعمانِ الذي قتل الضحاك. وذكر أبو الريحان البـيروني في كتابه المسمى بـ «الآثار الباقية عن القرون الخالية» أن ذا القرنين هو أبو كرب سميّ بن عيرين بن أفريقيس الحِمْيري وأن مُلكَه بلغ مشارقَ الأرض ومغاربَها وهو الذي افتخر به التبّعُ اليماني حيث قال: [الكامل]
قد كان ذو القرنين جدّي مسلما       ملِكاً علا في الأرض غيرَ مفنَّد
بلغ المشارقَ والمغاربَ يبتغي        أسبابَ أمرٍ من حكيم مُرشد
وجعلَ هذا القولَ أقربَ لأن الأذواءَ كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي النون وذي رُعَين وذي يزَن وذي جَدَن. قال الإمام الرازي: والأولُ هو الأظهرُ لأن من بلغ ملكَه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيلُ الجليلُ إنما هو الإسكندر اليونانيُّ كما تشهد به كتبُ التواريخ. يروى أنه لما مات أبوه جَمع مُلكَ الروم بعد أن كان طوائفَ، ثم قصد ملوكَ العرب وقهرَهم، ثم أمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصرَ فبنى الاسكندرية وسماها باسمه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيلَ وورد بـيتَ المقدس وذبح في مذبحه، ثم انعطف إلى أرمينيةَ وبابِ الأبواب ودان له العراقيون والقِبطُ والبربرُ، ثم توجه نحو دارا بنِ دارا وهزمه مراراً إلى أن قتله صاحبُ حرسِه، واستولى على ممالك الفرسِ وقصدَ الهند وفتحه وبنىٰ مدينة سرنديبَ وغيرَها من المدن العظامِ، ثم قصد الصينَ وغزا الأمم البعيدةَ ورجع إلى خراسانَ وبنى بها مدائنَ كثيرة، ورجع إلى العراق ومرض بشهرزورَ ومات، انتهى كلام الإمام.

وروي أن أهلَ النجوم قالوا له: إنك لا تموت إلا على أرض من حديد وتحت سماء من خشب، وكان يدفِن كنزَ كل بلدةٍ فيها ويكتب ذلك بصفته وموضعِه، فبلغ بابل فرعَف وسقط عن دابته، فبُسطت له دروعٌ فنام عليها، فآذته الشمس فأظلوه بترس، فنظر فقال: هذه أرض من حديد وسماءٌ من خشب، فأيقن بالموت فمات وهو ابنُ ألفٍ وستمائة سنة، وقيل: ثلاثةِ آلافِ سنة. قال ابن كثير: وهذا غريب. وأغربُ منه: ما قاله ابنُ عساكر من أنه بلغني أنه عاش ستاً وثلاثين سنة أو ثنتين وثلاثين سنة، وأنه كان بعد داود وسليمان عليهما السلام فإن ذلك لا ينطبق إلا على ذي القرنين الثاني كما سنذكره. قلت: وكذا ما ذكره الإمام من قصد بني إسرائيلَ وورودِ بـيت المقدس والذبحِ في مذبحه، فإنه مما لا يكاد يتأتى نسبتُه إلى الأول.

واختُلف في نبوته بعد الاتفاق على إسلامه وولايتِه، فقيل: كان نبـياً لقوله تعالى: -  إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى ٱلأَرْضِ -  وظاهر أنه متناولٌ للتمكين في الدين وكمالُه بالنبوة، ولقوله تعالى: -  وَآتَيْنَـٰهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَباً -  ومن جملة الأشياء النبوةُ، ولقوله تعالى: -  قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ -  ونحوِ ذلك، وقيل: كان ملكاً لما رُوي أن عمرَ رضي الله عنه سمع رجلاً يقول لآخر: يا ذا القرنين، فقال: اللهم غفراً أما رضِيتم أن تتسموا بأسماء الملائكة.

قال ابن كثير: والصحيحُ أنه ما كان نبـياً ولا ملكاً وإنما كان ملكاً صالحاً عادلاً ملَك الأقاليَم وقهر أهَلها من الملوك وغيرَهم ودانتْ له البلادُ، وأنه كان داعياً إلى الله تعالى سائراً في الخلق بالمَعْدلة التامة والسلطانِ المؤيَّدِ المنصورِ، وكان الخضر على مقدمة جيشِه بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير، وقد ذكر الأزرقي وغيرُه أنه أسلم على يدَيْ إبراهيمَ الخليلِ عليه الصلاة والسلام فطاف معه بالكعبة هو وإسماعيلُ عليهم السلام. ورُوي أنه حج ماشياً فلما سمع إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا، ويقال: إنه أُتيَ بفرس ليركب فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل، فعند ذلك سُخّر له السحاب وطُويَ له الأسباب وبشره إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بذلك فكانت السحابُ تحمله وعساكرَه وجميعَ آلاتِهم إذا أرادوا غزوةَ قومٍ، وقال أبو الطفيل: سُئل عنه عليٌّ كرم الله وجهه أكان نبـياً أم ملِكاً؟ فقال: لم يكن نبـياً ولا ملكاً لكن كان عبداً أحب الله فأحبه وناصح الله فناصحه سُخر له السحابُ ومُدّ له الأسباب.


واختلف في وجه تسميته بذي القرنين، فقيل: لأنه بلغ قَرني الشمس مشرِقَها ومغربَها، وقيل: لأنه ملَك الرومَ وفارسَ، وقيل: الرومَ والتركَ، وقيل: لأنه كان في رأسه أو في تاجه ما يشبه القرنين، وقيل: كان له ذؤابتان، وقيل: لأنه كانت صفحتا رأسِه من النحاس، وقيل: لأنه دعا الناس إلى الله عز وجل فضَرب بقرنه الأيمنِ فمات ثم بعثه الله تعالى فضَرب بقرنه الأيسرِ فمات ثم بعثه الله تعالى، وقيل: لأنه رأى في منامه أنه صعِد الفَلكَ فأخذ بقرني الشمس، وقيل: لأنه انقرض في عهده قَرنان، وقيل: لأنه سُخّر له النورُ والظلمة فإذا سرَى يهديه النورُ من أمامه وتحوطه الظلمةُ ورائه، وقيل: لُقّب به لشجاعته. هذا وأما ذو القرنين الثاني فقد قال ابن كثير: إنه الإسكندر بنُ فيلبسَ بنِ مصريمَ بنِ هُرمُسَ بنِ ميطونَ بنِ رومي بن ليطى بن يونان بن يافثَ بن نونه بن شرخونَ بن روميةَ بن ثونط بن نوفيلَ بن رومي بن الأصفرِ بن العنرِ بن العيصِ بن إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليهما الصلاة والسلام، كذا نسبه ابنُ عساكرَ المقدونيُّ اليوناني المصريُّ باني الإسكندريةِ الذي يؤرِّخ بأيامه الرومُ، وكان متأخراً عن الأول بدهر طويلٍ أكثرَ من ألفي سنة، كان هذا قبل المسيح عليه السلام بنحو من ثلثمائة سنة وكان وزيرُه أرسطاطاليس الفيلسوفَ وهو الذي قتل دارا بنَ دارا وأذلّ ملوكَ الفرس ووطِىء أرضهم. ثم قال ابن كثير: وإنما بـيّنا هذا لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحدٌ، وأن المذكورَ في القرآن العظيم هو هذا المتأخرُ فيقع بذلك خطأ كبـير وفساد كثيرٌ، كيف لا والأولُ كان عبداً صالحاً مؤمناً وملكاً عادلاً وزيرُه الخضرُ عليه الصلاة والسلام، وقد قيل: إنه كان نبـياً. وأما الثاني فقد كان كافراً وزيرُه أرسطاطاليس الفيلسوفُ وقد كان ما بـينهما من الزمان أكثرَ من ألفي سنة فأين هذا من ذلك؟ انتهى.

قلت: المقدوني نسبةً إلى بلدة من بلاد الروم غربـيَّ دارِ السلطنة السنية قُسطنطينيةَ المحمية لا زالت مشحونةً بالشعائر الدينية، بـينهما من المسافة مسيرةُ خمسةَ عشر يوماً أو نحوِ ذلك عند مدينة سَيروزَ اسمُها بلغة اليونانيـين مقدونيا، كانت سريرَ مُلك هذا الإسكندرِ وهي اليوم بلقَعٌ لا يقيم بها أحد، ولكن فيها علائمُ تحكي كمالَ عِظَمها في عهد عُمرانها ونهايةِ شوكةِ واليها وسلطانِها، ولقد مررتُ بها عند القُفول من بعض المغازي السُّلطانية فعاينتُ فيها من تعاجيب الآثارِ ما فيه عبرةٌ لأولي الأبصار.

-  قُلْ -  لهم في الجواب -  سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ -  أي سأذكر لكم -  مِنْهُ -  أي من ذي القرنين -  ذِكْراً -  أي نبأ مذكوراً، وحيث كان ذلك بطريق الوحي المتلوِّ حكايةً عن الله عز وجل، قيل: سأتلو أو سأتلو في شأنه من جهته تعالى ذكراً أي قرآناً، والسينُ للتأكيد والدِلالة على التحقيق المناسبِ لمقام تأيـيدِه عليه الصلاة والسلام وتصديقِه بإنجاز وعدِه، أي لا أترك التلاوةَ البتةَ كما في قول من قال: [الطويل]
سأشكر عَمْراً إن تراخت منيّتي       أياديَ لم تُمنَنْ وإن هي جلَّتِ
لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل، لأن هذه الآيةَ ما نزلت بإنفرادها قبل الوحي بتمام القصة، بل موصولةٌ بما بعدها ريثما سألوه عليه الصلاة والسلام عنه وعن الروح وعن أصحاب الكهفِ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: " ائتوني غداً أخبرْكم " فأبطأ عليه الوحيُ خمسة عشر يوماً أو أربعين كما ذكر فيما سلف.

 إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً -

قوله عز وجل: -  إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى ٱلأَرْضِ -  شروعٌ في تلاوة الذكر المعهودِ حسبما هو الموعودُ، والتمكينُ هٰهنا الإقدارُ وتمهيدُ الأسباب، يقال: مكّنه ومكّن له ومعنى الأولِ جعله قادراً وقوياً، ومعنى الثاني جعل له قدرةً وقوةً، ولتلازمهما في الوجود وتقاربهما في المعنى يُستعمل كلٌّ منهما في محل الآخر كما في قوله عز وعلا:
-  مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ -
[الأنعام، الآية 6] أي جعلناهم قادرين من حيث القُوى والأسبابُ والآلاتُ على أنواع التصرفاتِ فيها، ما لم نجعلْه لكم من القوة والسَّعة في المال والاستظهارِ بالعَدد والأسباب، فكأنه قيل: ما لم نمكنْكم فيها أي ما لم نجعلْكم قادرين على ذلك فيها أو مكنّا لهم في الأرض ما لم نمكنْ لكم، وهكذا إذا كان التمكينُ مأخوذاً من المكان بناءً على توهّم ميمِه أصليةً كما أشير إليه في سورة يوسفَ عليه الصلاة والسلام، والمعنى إنا جعلنا له مَكِنةً وقدرةً على التصرف في الأرض من حيث التدبـيرُ والرأيُ والأسبابُ، حيث سُخّر له السحابُ، ومُدّ له في الأسباب، وبُسط له النورُ، وكان الليلُ والنهار عليه سواءً، وسُهِّل عليه السيرُ في الأرض، وذُلّلت له طرقها -  وَآتَيْنَـٰهُ مِن كُلّ شَىْء -  أراده من مُهمّات مُلكه ومقاصدِه المتعلقة بسلطانه -  سَبَباً -  أي طريقاً يوصله إليه وهو كلُّ ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.

 فَأَتْبَعَ سَبَباً -  * -  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً -

-  فَأَتْبَعَ -  بالقطع، أي فأراد بلوغَ المغرب فأتبع -  سَبَباً -  يوصله إليه، ولعل قصدَ بلوغِ المغرب ابتداءً لمراعاة الحركةِ الشمسية، وقرىء فاتّبع من الافتعال والفرق أن الأولَ فيه معنى الإدراك والإسراعِ دون الثاني.

-  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ -  أي منتهى الأرضِ من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحدٌ من مجاوزته، ووقف على حافة البحر المحيطِ الغربـي الذي يقال له أوقيانوس الذي فيه الجزائرُ المسماة بالخالدات التي هي مبدأُ الأطوال على أحد القولين -  وَجَدَهَا -  أي الشمس -  تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ -  أي ذاتِ حَمأة وهي الطينُ الأسود من حمِئت البئرُ إذا كثرت حَمأتُها، وقرىء حامية أي حارّة. روي أن معاوية رضي الله عنه قرأ (حامية) وعنده ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (حَمِئة)، فقال معاوية لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين، ثم وجه إلى كعب الأحبار: كيف تجد الشمسَ تغرب؟ قال: في ماء وطين. وروي في ثَأْط فوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما، وليس بـينهما منافاةٌ قطعية لجواز كون العينِ جامعةً بـين الوصفين وكونِ الياء في الثانية منقلبةً عن الهمزة لانكسار ما قبلها. وأما رجوعُ معاوية إلى قول ابن عباس رضي الله عنهم بما سمعه من كعب مع أن قراءته أيضاً مسموعةٌ قطعاً، فلكون قراءةِ ابن عباس رضي الله عنهما قطعيةً في مدلولها وقراءتهِ محتمَلةً. ولعله لما بلغ ساحلَ المحيط رآها كذلك إذ ليس في مطمح بصره غيرُ الماء كما يلوح به قوله تعالى: -  وَجَدَهَا تَغْرُبُ -  -  وَوَجَدَ عِندَهَا -  عند تلك العين -  قَوْماً -  قيل: كان لباسُهم جلودَ الوحوش وطعامُهم ما لفَظه البحر، وكانوا كفاراً فخيّره الله جل ذكره بـين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوَهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى: -  قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ -  بالقتل من أول الأمر -  وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً -  أي أمراً ذا حُسْن على حذف المضافِ أو على طريقةِ إطلاقِ المصدر على موصوفه مبالغةً، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع، ومحلُّ أن مع صلته إما الرفعُ على الابتداء أو الخبرية وإما النصبُ على المفعولية، أي إما تعذيبُك واقعٌ أو إما تفعلُ تعذيبَك وهكذا الحال في الاتخاذ، ومن لم يقل بنبوته قال: كان ذلك الخطابُ بواسطة نبـيَ في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاماً لا وحياً بعد أن كان ذلك التخيـيرُ موافقاً لشريعة ذلك النبـي.
-  قَالَ -  أي ذو القرنين لذلك النبـيِّ أو لمن عنده من خواصّه بعد ما تلقّى أمرَه تعالى مختاراً للشق الأخير -  أَمَّا مَن ظَلَمَ -  أي نفسَه ولم يقبل دعوتي وأصرّ على ما كان عليه من الظلم العظيم الذي هو الشركُ -  فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ -  بالقتل. وعن قتادة أنه كان يطبُخ مَنْ كفر في القدور ومن آمن أعطاه وكساه -  ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبّهِ -  في الآخرة -  فَيْعَذّبُهُ -  فيها -  عَذَاباً نُّكْراً -  أي منكراً فظيعاً وهو عذابُ النار، وفيه دِلالةٌ ظاهرةٌ على أن الخطابَ لم يكن بطريق الوحي إليه وأن مقاولتَه كانت مع النبـي أو مع من عنده من أهل مشورتِه.

-  وَأَمَّا مَنْ آمَنَ -  بموجب دعوتي -  وَعَمِلَ -  عملاً -  صَـٰلِحاً -  حسبما يقتضيه الإيمان -  فَلَهُ -  في الدارين -  جَزَاء ٱلْحُسْنَىٰ -  أي فله المثوبةُ الحسنى أو الفِعلةُ الحسنى أو الجنةُ جزاءً، على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملةِ قُدّم على المبتدأ اعتناءً به، أو منصوب بمضمر أي نجزي بها جزاء، والجملةُ حالية أو معترضة بـين المبتدأ والخبرِ المتقدمِ عليه أو حال أي مجزياً بها أو تميـيز، وقرىء منصوباً غيرَ منوّن على أنه سقط تنوينُه لالتقاء الساكنين ومرفوعاً منوّناً على أنه المبتدأُ والحسنى بدلُه والخبرُ الجارُّ والمجرور. وقيل: خُيّر بـين القتل والأسرِ والجوابُ من باب الأسلوبِ الحكيم لأن الظاهرَ التخيـيرُ بـينهما وهم كفار، فقال: أما الكافرُ فيُراعىٰ في حقه قوةُ الإسلام وأما المؤمنُ قلا يُتعرَّض له إلا بما يحب، ويجوز أن تكون إما وأما للتوزيع دون التخيـير أي وليكن شأنُك معهم إما التعذيبَ وإما الإحسانَ فالأول لمن بقيَ على حاله والثاني لمن تاب -  وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا -  أي مما نأمر به -  يُسْراً -  أي سهلاً متيسراً غيرَ شاقَ وتقديرُه ذا يُسر، أو أُطلق عليه المصدرُ مبالغةً، وقرىء بضمتين.

-  ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً -  أي طريقاً راجعاً من مغرب الشمس موصلاً إلى مشرقها -  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ -  يعني الموضِعَ الذي تطلع عليه الشمسُ أولاً من معمورة الأرض، وقرىء بفتح اللام على تقدير مضاف أي مكان طلوعِ الشمس فإنه مصدر، قيل: بلغه في اثنتي عشرة سنة، وقيل: في أقلَّ من ذلك بناء على ما ذكر من أنه سُخّر له السحابُ وطُويَ له الأسباب -  وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً -  من اللباس والبناء، قيل: هم الزَّنْج. وعن كعب: أن أرضَهم لا تُمسك الأبنية وبها أسرابٌ، فإذا طلعت الشمسُ دخلوا الأسرابَ أو البحر، فإذا ارتفع النهارُ خرجوا إلى معايشهم، وعن بعضهم: خرجتُ حتى جاوزت الصينَ فسألت عن هؤلاء فقالوا: بـينك وبـينهم مسيرةُ يومٍ وليلةٍ، فبلغتُهم فإذا أحدُهم يفرُش أُذنه ويلبَس الأخرى ومعي صاحبٌ يعرِف لسانهم، فقالوا له: جئتنا تنظرُ كيف تطلُع الشمس، قال: فبـينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغُشيَ عليّ ثم أفقتُ وهم يمسحونني بالدُّهن، فلما طلعت الشمسُ على الماء إذا هو فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرَباً لهم، فلما ارتفع النهارُ خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضَج لهم، وعن مجاهد: من لا يلبَس الثيابَ من السودان عن مطلع الشمس أكثرُ من جميع أهلِ الأرض.

-  قَالَ -  أي ذو القرنين لذلك النبـيِّ أو لمن عنده من خواصّه بعد ما تلقّى أمرَه تعالى مختاراً للشق الأخير -  أَمَّا مَن ظَلَمَ -  أي نفسَه ولم يقبل دعوتي وأصرّ على ما كان عليه من الظلم العظيم الذي هو الشركُ -  فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ -  بالقتل. وعن قتادة أنه كان يطبُخ مَنْ كفر في القدور ومن آمن أعطاه وكساه -  ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبّهِ -  في الآخرة -  فَيْعَذّبُهُ -  فيها -  عَذَاباً نُّكْراً -  أي منكراً فظيعاً وهو عذابُ النار، وفيه دِلالةٌ ظاهرةٌ على أن الخطابَ لم يكن بطريق الوحي إليه وأن مقاولتَه كانت مع النبـي أو مع من عنده من أهل مشورتِه.

-  وَأَمَّا مَنْ آمَنَ -  بموجب دعوتي -  وَعَمِلَ -  عملاً -  صَـٰلِحاً -  حسبما يقتضيه الإيمان -  فَلَهُ -  في الدارين -  جَزَاء ٱلْحُسْنَىٰ -  أي فله المثوبةُ الحسنى أو الفِعلةُ الحسنى أو الجنةُ جزاءً، على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملةِ قُدّم على المبتدأ اعتناءً به، أو منصوب بمضمر أي نجزي بها جزاء، والجملةُ حالية أو معترضة بـين المبتدأ والخبرِ المتقدمِ عليه أو حال أي مجزياً بها أو تميـيز، وقرىء منصوباً غيرَ منوّن على أنه سقط تنوينُه لالتقاء الساكنين ومرفوعاً منوّناً على أنه المبتدأُ والحسنى بدلُه والخبرُ الجارُّ والمجرور. وقيل: خُيّر بـين القتل والأسرِ والجوابُ من باب الأسلوبِ الحكيم لأن الظاهرَ التخيـيرُ بـينهما وهم كفار، فقال: أما الكافرُ فيُراعىٰ في حقه قوةُ الإسلام وأما المؤمنُ قلا يُتعرَّض له إلا بما يحب، ويجوز أن تكون إما وأما للتوزيع دون التخيـير أي وليكن شأنُك معهم إما التعذيبَ وإما الإحسانَ فالأول لمن بقيَ على حاله والثاني لمن تاب -  وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا -  أي مما نأمر به -  يُسْراً -  أي سهلاً متيسراً غيرَ شاقَ وتقديرُه ذا يُسر، أو أُطلق عليه المصدرُ مبالغةً، وقرىء بضمتين.

-  ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً -  أي طريقاً راجعاً من مغرب الشمس موصلاً إلى مشرقها -  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ -  يعني الموضِعَ الذي تطلع عليه الشمسُ أولاً من معمورة الأرض، وقرىء بفتح اللام على تقدير مضاف أي مكان طلوعِ الشمس فإنه مصدر، قيل: بلغه في اثنتي عشرة سنة، وقيل: في أقلَّ من ذلك بناء على ما ذكر من أنه سُخّر له السحابُ وطُويَ له الأسباب -  وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً -  من اللباس والبناء، قيل: هم الزَّنْج. وعن كعب: أن أرضَهم لا تُمسك الأبنية وبها أسرابٌ، فإذا طلعت الشمسُ دخلوا الأسرابَ أو البحر، فإذا ارتفع النهارُ خرجوا إلى معايشهم، وعن بعضهم: خرجتُ حتى جاوزت الصينَ فسألت عن هؤلاء فقالوا: بـينك وبـينهم مسيرةُ يومٍ وليلةٍ، فبلغتُهم فإذا أحدُهم يفرُش أُذنه ويلبَس الأخرى ومعي صاحبٌ يعرِف لسانهم، فقالوا له: جئتنا تنظرُ كيف تطلُع الشمس، قال: فبـينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغُشيَ عليّ ثم أفقتُ وهم يمسحونني بالدُّهن، فلما طلعت الشمسُ على الماء إذا هو فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرَباً لهم، فلما ارتفع النهارُ خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضَج لهم، وعن مجاهد: من لا يلبَس الثيابَ من السودان عن مطلع الشمس أكثرُ من جميع أهلِ الأرض.

-  كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً -  * -  ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً -  * -  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً -  * -  قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً -

-  كَذٰلِكَ -  أي أمرُ ذي القرنين كما وصفناه لك في رفعة المحلِّ وبسطةِ المُلك، أو أمرُه فيهم كأمره في أهل المغرِب من التخيـير والاختيارِ، ويجوز أن يكون صفةَ مصدرٍ محذوف لوجد أو نجعل أو صفةَ قومٍ، أي على قوم مثلَ ذلك القَبـيل الذي تغرُب عليهم الشمس في الكفر والحُكم، أو ستراً مثلَ سترِكم من اللباس والأكنان والجبال وغيرِ ذلك -  وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ -  من الأسباب والعَدد والعُدد -  خُبْراً -  يعني أن ذلك من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علمُ اللطيفِ الخبـير. هذا على الوجه الأولِ وأما على الوجوه الباقيةِ فالمرادُ بما لديه ما يتناول ما جرى عليه وما صدر عنه وما لاقاه فتأمل.

-  ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً -  أي طريقاً ثالثاً معترِضاً بـين المشرق والمغرب آخذاً من الجنوب إلى الشمال -  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ -  بـين الجبلين الذين سُدّ ما بـينهما وهو منقطَعُ أرضِ الترك مما يلي المشرِق، لا جبلا أرمينيةَ وأَذَرْبـيجان كما توهم، وقرىء بالضم، قيل: ما كان من خلق الله تعالى فهو مضموم وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح، وانتصاب بـين على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف التي تستعمل أسماءً أيضاً كما ارتفع في قوله تعالى:
-  لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ -
[الأنعام: 94] وانجرّ في قوله تعالى:
-  هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ -
[الكهف: 78] -  وَجَدَ مِن دُونِهِمَا -  أي من ورائهما مجاوزاً عنهما -  قَوْماً -  أي أمة من الناس -  لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً -  لغرابة لغتِهم وقلة فِطنتِهم، وقرىء من باب الإفعال أي لا يُفهمون السامعَ كلامَهم، واختلفوا في أنهم من أي الأقوام، فقال الضحاك: هم جيلٌ من الترك، وقال السدي: التّركُ سريةٌ من يأجوجَ ومأجوجَ، خرجت فضرب ذو القرنين السدّ فبقيت خارجَه فجميعُ الترك منهم، وعن قتادة: أنهم اثنتان وعشرون قبـيلة سدّ ذو القرنين على إحدى وعشرين قبـيلةً منهم وبقيت واحدة فسُمّوا التركَ لأنهم تركوا خارجين.

قال أهل التاريخ: أولادُ نوح عليه السلام ثلاثةٌ: سامٌ وحامٌ ويافثُ، فسامٌ أبو العرب والعجمِ والروم، وحامٌ أبو الحبشةِ والزَّنج والنُّوبة، ويافثُ أبو الترك والخَزَر والصقالبة ويأجوجَ ومأجوج.

-  قَالُواْ -  أي بواسطة مترجمِهم أو بالذات على أن يكون فهمُ ذي القرنين كلامَهم وإفهامُ كلامِه إياهم من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب -  يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ -  قد ذكرنا أنهما من أولاد يافثَ بنِ نوحٍ عليه السلام، وقيل: يأجوجُ من الترك ومأجوجُ من الجيل، واختلف في صفاتهم فقيل: في غاية صِغرِ الجُثة وقِصَر القامة لا يزيد قدُّهم على شبر واحد، وقيل: في نهاية عِظَم الجسم وطولِ القامة تبلغ قدُودهم نحوَ مِائةٍ وعشرين ذراعاً وفيهم من عَرضُه كذلك، وقيل: لهم مخالبُ وأضراسٌ كالسباع وهما اسمانِ أعجميان بدليل منْع الصرفِ، وقيل: عربـيان من أجّ الظليمُ إذا أسرع وأصلهما الهمزة كما قرأ عاصم، وقد قرىء بغير همزةٍ ومُنع صرفُهما للتعريف والتأنيث -  مُفْسِدُونَ فِى ٱلأَرْضِ -  أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلافِ الزروع، وقيل: كانوا يخرُجون أيام الربـيع فلا يتركون أخضرَ إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه، وقيل: كانوا يأكلون الناسَ أيضاً -  فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً -  أي جُعْلاً من أموالنا، والفاء لتفريع العَرض على إفسادهم في الأرض، وقرىء خَراجا وكلاهما واحد كالنَّول والنوال، وقيل: الخراجُ ما على الأرض والذمة والخَرْجُ المصدر، وقيل: الخرج ما كان على كل رأس والخراجُ ما كان على البلد، وقيل: الخرجُ ما تبرعْتَ به والخراج ما لزِمك أداؤُه -  عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا -  وقرىء بالضم.

-  قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً -  * -  آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً -

-  قَالَ مَا مَكَّنّى -  بالإدغام وقرىء بالفك، أي ما مكّنني -  فِيهِ رَبّى -  وجعلني فيه مكيناً وقادراً من المُلك والمال وسائرِ الأسباب -  خَيْرٌ -  أي مما تريدون أن تبذُلوه إليّ من الخَرْج فلا حاجة بـي إليه -  فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ -  أي بفَعَلة وصُنّاع يُحسنون البناءَ والعمل وبآلات لا بد منها من البناء، والفاءُ لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكّنه الله تعالى فيه من مالهم أو على عدم قَبولِ خَرْجهم -  أَجَعَل -  جواب للأمر -  بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ -  تقديمُ إضافةِ الظرف إلى ضمير المخاطبـين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج، لإظهار كمالِ العناية بمصالحهم كما راعَوْه في قولهم: بـيننا وبـينهم -  رَدْمًا -  أي حاجزاً حصيناً وبرزخاً متيناً وهو أكبرُ من السدّ وأوثقُ، يقال: ثوبٌ مُرَدّم أي فيه رِقاع فوق رِقاعٍ وهذا إسعافٌ بمرامهم فوق ما يرجونه.

-  ءَاتُونِى زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ -  جمع زُبْره كغرف في غرفة وهي القطعةُ الكبـيرة وهذا لا ينافي ردّ خراجِهم لأن المأمورَ به الإيتاءُ بالثمن أو المناولةُ كما ينبىء عنه القراءة بوصل الهمزة، أي جيئوني بزُبَر الحديد على حذف الباء كما في أمرتك الخيرَ، ولأن إيتاءَ الآلة من قبـيل الإعانةِ بالقوة دون الخَراج على العمل، ولعل تخصيصَ الأمر بالإيتاء بها دون سائرِ الآلات من الصخور والحطبِ ونحوِهما لِما أن الحاجة إليها أمسُّ إذ هي الركنُ في السد ووجودُها أعزُّ. قيل: حفَر الأساسَ حتى بلغ الماء وجعل الأساسَ من الصخر والنحاس المذابِ والبنيانَ من زُبر الحديد بـينها الحطبُ والفحم حتى سدّ ما بـين الجبلين إلى أعلاهما وكان مائةَ فرسخ وذلك قوله عز قائلاً: -  حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ -  أي آتَوه إياها فإخذ يبني شيئاً فشيئاً حتى إذا جعل ما بـين ناحيتي الجبلين من البنيان مساوياً لهما في السَّمْك على النهج المحكيِّ، قيل: كان ارتفاعُه مائتي ذارعٍ وعَرضُه خمسين ذراعاً، وقرىء سوّى من التسوية وسُووِيَ على البناء للمجهول -  قَالَ -  للعَمَلة -  ٱنفُخُواْ -  أي بالكيران في الحديد المبني ففعلوا -  حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ -  أي المنفوخ فيه -  نَارًا -  أي كالنار في الحرارة والهيئة، وإسنادُ الجعل المذكور إلى ذي القرتين مع أنه فعلُ الفَعَلة للتنبـيه علي أنه العُمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلةِ -  قَالَ -  للذين يتولَّوْن أمرَ النحاس من الإذابة ونحوِهما -  آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً -  أي آتوني قِطراً أي نُحاساً مذاباً أفرِغْ عليه قطراً، فحُذف الأول لدِلالة الثاني عليه، وقرىء بالوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإعانة باليد عند الإفراغ وإسنادُ الإفراغِ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفاً وكذا الكلامُ في قوله تعالى: -  سَاوِى -  وقولِه تعالى: -  أَجَعَلْ - .
 فَمَا ٱسْطَـٰعُواْ -  بحذف تاء الافتعال تخفيفاً وحذَراً عن تلاقي المتقارِبَـين، وقرىء بالإدغام وفيه جمعٌ بـين الساكنين على غير حِدَة، وقرىء بقلب السين صاداً، والفاء فصيحةٌ أي فعلوا ما أُمروا به من إيتاء القِطْر أو الإتيانِ، فأفرغَه عليه، فاختلط والتصق بعضُه ببعض، فصار جبلاً صَلْداً، فجاء يأجوجُ ومأجوجُ، فقصدوا أن يعلُوه وينقُبوه فما استطاعوا -  أَن يَظْهَرُوهُ -  أي يعلوه ويرقَوا فيه لارتفاعه وملاسته -  وَمَا ٱسْتَطَـٰعُواْ لَهُ نَقْبًا -  لصلابته وثخانتِه، وهذه معجزةٌ عظيمةٌ لأن تلك الزُبَرَ الكثيرةَ إذا أثرت فيها حرارةُ النار لا يقدر الحيوانُ على أن يحوم حولها فضلاً عن النفخ فيها إلى أن تكون كالنار، أو عن إفراغ القِطر عليها فكأنه سبحانه وتعالى صرف تأثيرَ الحرارةِ العظيمة عن أبدان أولئك المباشرين للأعمال فكان ما كان والله على كل شيء قدير. وقيل: بناه من الصخور مرتبطاً بعضُها ببعض بكلاليب من حديد ونحاسٍ مُذاب في تجاويفها بحيث لم يبق هناك فُرجةٌ أصلاً.

-  قَالَ -  أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديارِ وغيرهم -  هَـٰذَا -  إشارةٌ إلى السد، وقيل: إلى تمكينه من بنائه والفضلُ للمتقدم أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنُه ما ذكر من المتانة وصعوبةِ المنال -  رَحْمَةٌ -  أي أثرُ رحمةٍ عظيمة عبر عنه بها مبالغةً -  مّن رَّبّى -  على كافة العباد لا سيما على مجاوريه، وفيه إيذانٌ بأنه ليس من قبـيل الآثارِ الحاصلةِ بمباشرة الخلقِ عادةً بل هو إحسانٌ إلٰهي محضٌ وإن ظهر بمباشرتي، والتعرّضُ لوصف الربوبـية لتربـية معنى الرحمة.

-  فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى -  مصدر بمعنى المفعول وهو يومُ القيامة لا خروجُ يأجوجَ ومأجوجَ كما قيل إذ لا يساعده النظمُ الكريم، والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئَه ومجيءَ مباديه من خروجهم وخروجِ الدجالِ ونزولِ عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوِ ذلك لا دنوُّ وقوعِه فقط كما قيل، فإن بعضَ الأمور التي ستُحكىٰ تقع بعد مجيئِه حتماً -  جَعَلَهُ -  أي السدَّ المشارَ إليه مع متانته ورصانتِه، وفيه من الجزالة ما ليس في توجيه الإشارةِ السابقة إلى التمكين المذكور -  دَكَّاء -  أي أرضاً مستويةً، وقرىء دكاً أي مدكوكاً مسوَّى بالأرض، وكلُّ ما انبسط بعد ارتفاعٍ فقد اندك ومنه الجملُ الأدكُّ أي المنبسطُ السنام، وهذا الجعلُ وقت مجيءِ الوعد بمجيء بعضِ مباديه، وفيه بـيانٌ لعظم قدرتِه عز وجل بعد بـيان سعةِ رحمته -  وَكَانَ وَعْدُ رَبّى -  أي وعدُه المعهودُ أو كلُّ ما وعد به فيدخُل فيه ذلك دخولاً أولياً -  حَقّاً -  ثابتاً لا محالةَ واقعاً البتة، وهذه الجملةُ تذيـيلٌ من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطيةِ ومقرِّرٌ مؤكدٌ لمضمونها وهو آخرُ ما حُكي من قصته

هناك تعليق واحد: