الأربعاء، 28 مارس 2012

ذو القرنين وتفسير الامام الطبري


يعد الطبري من اهم علماء المسلمين وتفسيره للقرأن هو اهم التفاسير الاسلامية على الاطلاق خصوصا وانه جاء في القرن الثالث الهجري  فهو من مواليد سنة 224 هجرية  وقد مات سنة 310 هجرية ، وهذا جعله قريبا جدا من بداية التاريخ الاسلامي . 


ومن تفسير الطبري نقدم هذا الجزء المنسوخ من تفسيره لسورة الكهف عن شخصية ذي القرنين :






حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً

يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ويسألك يا مـحمد هؤلاء الـمشركون عن ذي القرنـين ما كان شأنه، وما كانت قصته، فقل لهم: سأتلو علـيكم من خبره ذكراً يقول: سأقصّ علـيكم منه خبراً. وقد قـيـل: إن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر ذي القرنـين، كانوا قوما من أهل الكتاب. فأما الـخبر بأن الذين سألوه عن ذلك كانوا مشركي قومه فقد ذكرناه قبل. وأما الـخبر بأن الذين سألوه، كانوا قوماً من أهل الكتاب.

فحدثنا به أبو كريب، قال: ثنا زيد بن حبـاب عن ابن لهيعة، قال: ثنـي عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن شيخين من نـجيب، قال: أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلـى عقبة بن عامر نتـحدّث، قالا: فأتـياه فقالا: جئنا لتـحدثنا، فقال: كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت من عنده، فلقـينـي قوم من أهل الكتاب، فقالوا: نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـاستأذن لنا علـيه، فدخـلت علـيه، فأخبرته، فقال: " مالـي ومالهم، مالـي علـم إلا ما علـمنـي الله، ثم قال: " اسكب لـي ماء، فتوضأ ثم صلـى، قال: فما فرغ حتـى عرفت السرور فـي وجهه، ثم قال: " أدخـلهم علـيّ، ومن رأيت من أصحابـيفدخـلوا فقاموا بـين يديه، فقال: " إن شئتـم سألتـم فأخبرتكم عما تـجدونه فـي كتابكم مكتوبـاً، وإن شئتـم أخبرتكم، قالوا: بلـى أخبرنا، قال: " جئتـم تسألونـي عن ذي القرنـين، وما تـجدونه فـي كتابكم: كان شاباً من الروم، فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية فلـما فرغ جاءه ملك فعلا به فـي السماء، فقال له ما ترى؟ فقال: أرى مدينتـي ومدائن، ثم علا به، فقال: ما ترى؟ فقال: أرى مدينتـي، ثم علا به فقال: ما ترى؟ قال: أرى الأرض، قال: فهذا ألـيـم مـحيط بـالدنـيا، إن الله بعثنـي إلـيك تعلـم الـجاهل، وتثبت العالـم، فأتـى به السدّ، وهو جبلان لـينان يَزْلَق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتـى جاوز يأجوج ومأجوج، ثم مضى به إلـى أمة أخرى، وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتـى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب، ثم مضى حتـى قطع به هؤلاء إلـى أمة أخرى قد سماهم

واختلف أهل العلـم فـي الـمعنى الذي من أجله قـيـل لذي القرنـين: ذو القرنـين، فقال بعضهم: قـيـل له ذلك من أجل أنه ضُرِب علـى قَرنه فهلك، ثم أُحْيِـي فضُرب علـى القرن الآخر فهلك. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن عبـيد الـمُكْتِب، عن أبـي الطُّفَـيـل، قال: سأل ابن الكوّاء علـياً عن ذي القرنـين، فقال: هو عبد أحبّ الله فأحبه، وناصح الله فنصحه، فأمرهم بتقوى الله فضربوه علـى قَرْنه فقتلوه، ثم بعثه الله، فضربوه علـى قرنه فمات.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفـيان، عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن أبـي الطفـيـل، قال: سئل علـيّ رضوان الله علـيه عن ذي القرنـين، فقال: كان عبداً ناصح الله فناصحه، فدعا قومه إلـى الله، فضربوه علـى قرنه فمات، فأحياه الله، فدعا قومه إلـى الله، فضربوه علـى قرنه فمات، فسمي ذا القرنـين.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن القاسم بن أبـي بَزَّة، عن أبـي الطفـيـل، قال: سمعت علـيا وسألوه عن ذي القرنـين أنبـياً كان؟ قال: كان عبداً صالـحاً، أحبّ الله فأحبه، وناصَحَ الله فنصحه، فبعثه الله إلـى قومه، فضربوه ضربتـين فـي رأسه، فسمي ذا القرنـين، وفـيكم الـيوم مثله.

وقال آخرون فـي ذلك بـما:

حدثنـي به مـحمد بن سهل البخاريّ، قال: ثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل، قال: قال وهب بن منبه: كان ذو القرنـين مَلِكاً، فقـيـل له: فلـم سُمّي ذا القرنـين؟ قال: اختلف فـيه أهل الكتاب، فقال بعضهم: مَلَك الروم وفـارس. وقال بعضهم: كان فـي رأسه شبه القرنـين.

وقال آخرون: إنـما سمي ذلك لأن صفحتـي رأسه كانتا من نـحاس. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: ثنـي من لا أتهم عن وهب بن منبه الـيـمانـي، قال: إنـما سمي ذا القرنـين أن صفحتـي رأسه كانتا من نـحاس.

وقوله:
  إنَّا مَكَّنا لَهُ الأرْضِ وآتَـيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سبَبـاً 
يقول: إنا وطأنا له فـي الأرض،
  وآتَـيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سبَبـاً 
يقول: وآتـيناه من كلّ شيء: يعنـي ما يتسبب إلـيه وهو العلـم به.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله:
  وآتَـيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سبَبـاً 
يقول: علـما.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
  وآتَـيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سبَبـاً 
أي علـما.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله:
  وآتَـيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سبَبـاً 
قال: من كلّ شيء علـما.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله:
  وآتَـيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سبَبـاً 
قال: علـم كلّ شيء.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس
  وآتَـيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سبَبـاً 
علـماً.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: ثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله:
  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً 


  وآتَـيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سبَبـاً 
يقول: علـماً.

وقوله:
  فَأَتْبَعَ سبَبـاً 
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: «فـاتَّبع» بوصل الألف، وتشديد التاء، بـمعنى: سلك وسار، من قول القائل: اتَّبعتُ أثر فلان: إذا قـفوته وسرت وراءه. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة
  فَأَتْبَعَ 
بهمز، وتـخفـيف التاء، بـمعنى لـحق.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب: قراءة من قرأ: «فـاتَّبَعَ» بوصل الألف، وتشديد التاء، لأن ذلك خبر من الله تعالـى ذكره عن مسير ذي القرنـين فـي الأرض التـي مكن له فـيها، لا عن لـحاقه السبب، وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس «فـاتَّبَعَ سَبَبـاً» يعنـي بـالسبب: الـمنزل.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله:
  سَبَبـاً 
قال: منزلاً وطريقاً ما بـين الـمشرق والـمغرب.

حدثنـا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، نـحوه.

حدثنـي مـحمد بن عُمارة الأسديّ، قال: ثنا عبـيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى، عن مـجاهد «فـاتَّبَعَ سَبَبـا» قال: طريقاً فـي الأرض.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة «فـاتَّبَعَ سَبَبـا»: اتبع منازل الأرض ومعالـمها.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله «فـاتَّبَعَ سَبَبـاً» قال: هذه الآن سبب الطرق كما قال فرعون
 يا هامانُ ابْنِ لـي صَرْحاً لَعَلِّـي أبْلُغُ الأسْبَـابَ أسْبـابَ السَّمَوَاتِ
قال: طُرق السموات.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: «فـاتَّبَعَ سَبَبـاً» قال: منازل الأرض.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله: «فـاتَّبَعَ سَبَبـاً» قال: الـمنازل

  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً 

يقول تعالـى ذكره: حتـى إذَا بَلَغَ   ذو القرنـين مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ   ، فـاختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء الـمدينة والبصرة: فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ   بـمعنى: أنها تغرب فـي عين ماء ذات حمأة، وقرأته جماعة من قراء الـمدينة، وعامَّة قرّاء الكوفة: «فـي عَيْنٍ حَامِيَةٍ» يعنـي أنها تغرب فـي عين ماء حارّة.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـلهم ذلك علـى نـحو اختلاف القرّاء فـي قراءته. ذكر من قال: تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ  :

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا ابن أبـي عديّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس وَجَدَها تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ   قال: فـي طين أسود.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا عبد الأعلـى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس، أنه كان يقرأ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ   قال: ذات حمأة.

حدثنا الـحسين بن الـجنـيد، قال: ثنا سعيد بن مسلـمة، قال: ثنا إسماعيـل بن عُلَـية، عن عثمان بن حاضر، قال: سمعت عبد الله بن عبـاس يقول: قرأ معاوية هذه الآية، فقال: «عَيْن حامِيَة» فقال ابن عبـاس: إنها عين حمئة، قال: فجعلا كعبـاً بـينهما، قال: فأرسلا إلـى كعب الأحبـار، فسألاه، فقال كعب: أما الشمس فإنها تغيب فـي ثأط، فكانت علـى ما قال ابن عبـاس، والثأط: الطين.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي نافع بن أبـي نعيـم، قال: سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول: كان ابن عبـاس يقول فِـي عَيْنِ حَمِئَة   ثم فسرها: ذات حمأة، قال نافع: وسئل عنها كعب، فقال: أنتـم أعلـم بـالقرآن منـي، ولكنـي أجدها فـي الكتاب تغيب فـي طينة سوداء.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس وَجَدَها تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ   قال: هي الـحمأة.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فِـي عَيْنِ حَمِئَة   قال: ثأط.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد فـي قول الله عزّ ذكره تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ   قال: ثأطة.

قال: وأخبرنـي عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبـي ربـاح، عن ابن عبـاس، قال: قرأت فِـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ   وقرأ عمرو بن العاص فِـي عَيْنٍ حامِيَةٍ فأرسلنا إلـى كعب، فقال: إنها تغرب فـي حمأة طينة سوداء.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ   والـحمئة: الـحمأة السوداء.

حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن ورقاء، قال: سمعت سعيد بن جبـير، قال: كان ابن عبـاس يقرأ هذا الـحرف فـي عَيْنٍ حَمِئَةٍ   ويقول: حمأة سوداء تغرب فـيها الشمس.

وقال آخرون: بل هي تغيب فـي عين حارّة. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس «وَجَدَها تَغْرُبُ فـي عَيْنٍ حَامِيَةٍ» يقول: فـي عين حارّة.

حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، قال: سمعت الـحسن يقول: «فِـي عَيْنٍ حَامِيَةٍ» قال: حارّة.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله: «فِـي عَيْنٍ حَامِيَةً» قال: حارّة، وكذلك قرأها الـحسن.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار، ولكلّ واحدة منهما وجه صحيح ومعنى مفهوم، وكلا وجهيه غير مفسد أحدهما صاحبه، وذلك أنه جائز أن تكون الشمس تغرب فـي عين حارّة ذات حمأة وطين، فـيكون القارىء فـي عين حامية وصفها بصفتها التـي هي لها، وهي الـحرارة، ويكون القارىء فـي عين حمئة واصفها بصفتها التـي هي بها وهي أنها ذات حمأة وطين. وقد رُوي بكلا صيغتـيها اللتـين قلت إنهما من صفتـيها أخبـار.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا العوّام، قال: ثنـي مولـى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله، قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلـى الشمس حين غابت، فقال: " فِـي نارِ اللَّهِ الـحامِيَةِ، فِـي نارِ اللَّهِ الـحامِيَةِ، لَوْلا ما يَزَعُها مِنْ أمْرِ اللَّهِ لأَحْرَقَتْ ما عَلـى الأرْض

حدثنـي الفضل بن داود الواسطي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا مـحمد بن دينار، عن سعد بن أوس، عن مصدع، عن ابن عبـاس، عن أبـيّ بن كعب أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أقرأه: { حَمِئَةٍ }.

وقوله: { وَوَجَدَ عَنْدَها قَوْماً } ذكر أن أولئك القوم يقال لهم: ناسك. وقوله: { قُلْنا يا ذَا القَرْنَـيْنِ إمَّا أنْ تُعَذّبَ } يقول: إما أن تقتلهم إن هم لـم يدخـلوا فـي الإقرار بتوحيد الله، ويذعنوا لك بـما تدعوهم إلـيه من طاعة ربهم { وإمَّا أنْ تَتَّـخِذَ فِـيهِمْ حُسْناً } يقول: وإما أن تأسرهم فتعلـمهم الهدى وتبصرهم الرشاد.


قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً

يقول جلّ ثناؤه { قال أمَّا مَنْ ظَلَـمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ } يقول: أما من كفر فسوف نقتله، كما:

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: { أمَّا مَنْ ظَلَـمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ } قال: هو القتل.

وقوله: { ثُمَّ يُرَدُّ إلـى رَبِّهِ فَـيُعَذّبُهُ عَذَابـاً نُكْراً } يقول: ثم يرجع إلـى الله تعالـى بعد قتله، فـيعذّبه عذابـاًعظيـماً، وهو النكر، وذلك عذاب جهنـم.

وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً


يقول: وأما من صدّق الله منهم ووحدَّه، وعمل بطاعته، فله عند الله الـحسنى، وهي الـجنة، { جزاء } يعنـي ثوابـا علـى إيـمانه، وطاعته ربه.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل البصرة والكوفة: «فَلَهُ جَزَاءُ الـحُسْنَى» برفع الـجزاء وإضافته إلـى الـحسنى.

وإذا قرىء ذلك كذلك، فله وجهان من التأويـل:

أحدهما: أن يجعل الـحسنى مراداً بها إيـمانه وأعماله الصالـحة، فـيكون معنى الكلام إذا أريد بها ذلك: وإما من آمن وعمل صالـحاً فله جزاؤها، يعنـي جزاء هذه الأفعال الـحسنة.

والوجه الثانـي: أن يكون معنـيا بـالـحسنى: الـجنة، وأضيف الـجزاء إلـيها، كما قـيـل
{ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ }
والدار: هي الآخرة، وكما قال:
{ وَذلكَ دِينُ القَـيِّـمَة }
والدين: هو القـيـم.

وقرأ آخرون: { فَلَهُ جَزَاءً الـحُسْنى } بـمعنى: فله الـجنة جزاء فـيكون الـجزاء منصوبـاً علـى الـمصدر، بـمعنى: يجازيهم جزاء الـجنة.

وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندي قراءة من قرأه: { فَلَهُ جَزاءً الـحُسْنَى } بنصب الـجزاء وتنوينه علـى الـمعنى الذي وصفت، من أن لهم الـجنة جزاء، فـيكون الـجزاء نصبـا علـى التفسير.

وقوله: { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أمْرِنا يُسْراً } يقول: وسنعلـمه نـحن فـي الدنـيا ما تـيسر لنا تعلـيـمه مـما يقرّ به إلـى الله ويـلـين له من القول. وكان مـجاهداً يقول نـحواً مـما قلنا فـي ذلك.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى «ح» وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { مِنْ أمْرِنا يُسْراً } قال معروفـاً.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.

 ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً  *  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً  *  كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً

يقول تعالـى ذكره: ثم سار وسلك ذو القرنـين طرقا ومنازل، كما:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: { ثُمَّ أتْبَعَ سَبَبـاً } يعنـي منزلاً.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { ثُمَّ أتْبَعَ سَبَبـاً }: منازل الأرض ومعالـمها. { حتـى إذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْراً }: يقول تعالـى ذكره: ووجد ذو القرنـين الشمس تطلع علـى قوم لـم نـجعل لهم من دونها ستراً، وذلك أن أرضهم لا جبل فـيها ولا شجر، ولا تـحتـمل بناء، فـيسكنوا البـيوت، وإنـما يغورون فـي الـمياه، أو يَسْرُبون فـي الأسراب. كما:

حدثنـي إبراهيـم بن الـمستـمر، قال: ثنا سلـيـمان بن داود وأبو داود، قال: ثنا سهل بن أبـي الصلت السراج، عن الـحسن { تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْراً } قال: كانت أرضاً لا تـحتـمل البناء، وكانوا إذا طلعت علـيهم الشمس تغوروا فـي الـماء، فإذا غربت خرجوا يتراعون، كما ترعى البهائم، قال: ثم قال الـحسن: هذا حديث سَمُرة.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { حتـى إذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْراً } ذُكِر لنا أنهم كانوا فـي مكان لا يستقرّ علـيه البناء، وإنـما يكونون فـي أسراب لهم، حتـى إذا زالت عنهم الشمس خرجوا إلـى معايشهم وحروثهم، قال: { كذلك وقد أحطنا بـما لديه خبراً }.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج فـي قوله: { وَجَدَها تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْراً } قال: لـم يبنوا فـيها بناء قَطّ، ولـم يُبْنَ علـيهم فـيها بناء قَطّ، وكانوا إذا طلعت علـيهم الشمس دخـلوا أسرابـاً لهم تزول الشمس، أو دخـلوا البحر، وذلك أن أرضهم لـيس فـيها جبل، وجاءهم جيش مرّة، فقال لهم أهلها: لا تطلُعَنّ علـيكم الشمس وأنتـم بها، فقالوا: لا نبرح حتـى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا: هذه جِيفَ جيش طلعت عليهم الشمس ها هنا فماتوا، قال: فذهبوا هاربـين فـي الأرض.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: { تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْراً } قال: بلغنا أنهم كانوا فـي مكان لا يثبت علـيهم بناء، فكانوا يدخـلون فـي أسراب لهم إذا طلعت الشمس، حتـى تزول عنهم، ثم يخرجون إلـى معايشهم.

وقال آخرون: هم الزَّنـج. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله { تَطْلُعُ علـى قَوْمٍ لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونها سِتْراً } قال: يقال: هم الزَّنْـج.

وأما قوله: { كَذَلِكَ } فإن معناه: ثم أتبع سببـاً كذلك، حتـى إذا بلغ مطلع الشمس وكذلك: من صلة أتبع. وإنـما معنى الكلام: ثم أتبع سببـا، حتـى بلغ مطلع الشمس، كما أتبع سببـاً حتـى بلغ مغربها.

وقوله: { وَقَدْ أحَطْنا بِـمَا لَدَيْهِ خُبْراً } يقول: وقد أحطنا بـما عند مطلع الشمس علماً، لا يخفـى علـينا مـما هنالك من الـخـلق وأحوالهم وأسبـابهم، ولا من غيرهم، شيء. وبـالذي قلنا فـي معنى الـخبر، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { خُبْراً } قال: علـماً.

حدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { كَذَلكَ وَقَدْ أحَطْنا بِـمَا لَدَيْهِ خُبْراً } قال: علـماً.


 ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً *  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً  *  قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً

يقول تعالى ذكره: ثم سار طرقاً ومنازل، وسلك سبلاً { حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السَّدَّيْنِ }.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة بعض الكوفـيـين: «حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السَّدَّيْنِ» بضمّ السين وكذلك جميع ما فـي القرآن من ذلك بضم السين. وكان بعض قرّاء الـمكيـين يقرؤه بفتـح ذلك كله. وكان أبو عمرو بن العلاء يفتـح السين فـي هذه السورة، ويضمّ السين فـي يس، ويقول: السدَّ بـالفتـح: هو الـحاجز بـينك وبـين الشيء والسدُّ بـالضم: ما كان من غشاوة فـي العين. وأما الكوفـيون فإن قراءة عامتهم فـي جميع القرآن بفتـح السين غير قوله: { حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السَّدَّيْنِ } فإنهم ضموا السين فـي ذلك خاصة. وروي عن عكرمة فـي ذلك ما:

حدثنا به أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما كان من صنعة بنـي آدم فهو السَّدّ، يعنـي بـالفتـح، وما كان من صنع الله فهو السدّ. وكان الكسائي يقول: هما لغتان بـمعنى واحد.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار، ولغتان متفقتا الـمعنى غير مختلفة، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، ولا معنى للفرق الذي ذكر عن أبـي عمرو بن العلاء، وعكرمة بـين السُّد والسَّد، لأنا لـم نـجد لذلك شاهداً يبـين عن فرقان ما بـين ذلك علـى ما حكي عنهما. ومـما يبـين ذلك أن جمع أهل التأويـل الذي رُوي لنا عنهم فـي ذلك قول، لـم يحك لنا عن أحد منهم تفصيـل بـين فتـح ذلك وضمه، ولو كان مختلفـي الـمعنى لنقل الفصل مع التأويـل إن شاء الله، ولكن معنى ذلك كان عندهم غير مفترق، فـيفسر الـحرف بغير تفصيـل منهم بـين ذلك. وأما ما ذُكر عن عكرمة فـي ذلك، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب وهارون، وفـي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه. والسَّد والسُّد جميعا: الـحاجز بـين الشيئين، وهما ههنا فـيـما ذُكر جبلان سدّ ما بـينهما، فردم ذو القرنـين حاجزا بـين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم، لـيقطع مادّ غوائلهم وعيثهم عنهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس «حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السَّدَّيْنِ» قال: الـجبلـين الردم الذي بـين يأجوج ومأجوج، أمتـين من وراء ردم ذي القرنـين، قال: الـجبلان: أرمينـية وأذربـيجان.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة «حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السَّدَّيْنِ» وهما جبلان.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: ثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: «بـينَ السَّدَّيْنِ» يعنـي بـين جبلـين.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: «بـينَ السَّدَّيْنِ» قال: هما جبلان.

وقوله { وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } يقول عزّ ذكره: وجد من دون السدّين قوماً لا يكادون يفقهون قول القائل سوى كلامهم.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله { يَفْقَهُونَ } فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة { يَفْقَهُونَ قَوْلاً } بفتـح القاف والـياء، من فقَه الرجل يفقه فقهاً. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة «يُفْقِهُونَ قَوْلاً» بضمّ الـياء وكسر القاف: من أفقهت فلاناً كذا أفقهه إفقاها: إذا فهمته ذلك.

والصواب عندي من القول فـي ذلك، أنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قراءة الأمصار، غير دافعة إحداهما الأخرى وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الـخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولاً لغيرهم عنهم، فـيكون صوابـاً القراءة بذلك. وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل: إما بألسنتهم، وإما بـمنطقهم، فتكون القراءة بذلك أيضاً صوابـاً.

وقوله: { إنَّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله { إنَّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ } فقرأت القرّاء من أهل الـحجاز والعراق وغيرهم: «إنَّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ» بغير همز علـى فـاعول من يججت ومـججت، وجعلوا الألفـين فـيهما زائدتـين، غير عاصم بن أبـي النـجود والأعرج، فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بـالهمز فـيهما جميعاً، وجعلا الهمز فـيهما من أصل الكلام، وكأنهما جعلا يأجوج: يفعول من أججت، ومأجوج: مفعول.

والقراءة التـي هي القراءة الصحيحة عندنا، { أن يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ } بألف بغير همز لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه، وأنه الكلام الـمعروف علـى ألسن العرب ومنه قول رؤبة بن العجاج.
لَوْ أنَّ ياجُوجَ ومَاجُوجَ معَا                   وعادَ عادُوا واسْتَـجاشُوا تُبَّعا
وهم أمَّتان من وراء السدّ.

وقوله: { مِفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } اختلف أهل التأويـل فـي معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتـين الأمتـين، فقال بعضهم: كانوا يأكلون الناس. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن الولـيد الرملـي، قال: ثنا إبراهيـم بن أيوب الـخوزانـي، قال: ثنا الولـيد بن مسلـم، قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول فـي قوله { إنَّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } قال: كانوا يأكلون الناس.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن يأجوج ومأجوج سيفسدون فـي الأرض، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون. ذكر من قال ذلك، وذكر صفة اتبـاع ذي القرنـين الأسبـاب التـي ذكرها الله فـي هذه الآية، وذكر سبب بنائه للردم:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنا مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب، مـمن قد أسلـم، مـما توارثوا من علـم ذي القرنـين، أن ذا القرنـين كان رجلاً من أهل مصر اسمه مرزِبـا بن مردَبة الـيونانـي، من ولد يونن بن يافث بن نوح.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي، وكان خالد رجلاً قد أدرك الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنـين فقال: " مَلِكٌ مَسَحَ الأرْضَ مِنْ تَـحْتِها بـالأسْبـابِ " قال خالد: وسمع عمر بن الـخطاب رجلاً يقول: يا ذا القرنـين، فقال: اللهمّ غفراً، أما رضيتـم أن تسموا بأسماء الأنبـياء، حتـى تسموا بأسماء الـملائكة؟ فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فـالـحقّ ما قال، والبـاطل ما خالفه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: فحدثنـي من لا أتهم عن وهب بن منبه الـيـمانـي، وكان له علـم بـالأحاديث الأول، أنه كان يقول: ذو القرنـين رجل من الروم. ابن عجوز من عجائزهم، لـيس لها ولد غيره، وكان اسمه الإسكندر. وإنـما سمي ذا القرنـين أن صفحتـي رأسه كانتا من نـحاس فلـما بلغ وكان عبداً صالـحاً، قال الله عزّ وجلّ له: يا ذا القرنـين إنـي بـاعثك إلـى أمـم الأرض، وهي أمـم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض ومنهم أمتان بـينهما طول الأرض كله ومنهم أمتان بـينهما عرض الأرض كله، وأمـم فـي وسط الأرض منهم الـجنّ والإنس ويأجوج ومأجوج. فأما الأمتان اللتان بـينهما طول الأرض: فأمه عند مغرب الشمس، يقال لها: ناسك. وأما الأخرى: فعند مطلعها يقال لها: منسك. وأما اللتان بـينهما عرض الأرض، فأمة فـي قطر الأرض الأيـمن، فقال لها: هاويـل. وأما الأخرى التـي فـي قطر الأرض الأيسر، فأمة يقال لها: تأويـل فلـما قال الله له ذلك، قال له ذو القرنـين: إلهي إنك قد ندبتنـي لأمر عظيـم لا يَقدر قَدره إلا أنت، فأخبرنـي عن هذه الأمـم التـي بعثتنـي إلـيها، بأيّ قوّة أكابرهم، وبأيّ جمع أكاثرهم، وبأيّ حيـلة أكايدهم، وبأيّ صبر أقاسيهم، وبأيّ لسان أناطقهم، وكيف لـي بأن أفقه لغاتهم، وبأيّ سمع أعي قولهم، وبأيّ بصر أنفذهم، وبأيّ حجة أخاصمهم، وبأيّ قلب أعقل عنهم، وبأيّ حكمة أدبر أمرهم، وبأيّ قسط أعدل بـينهم، وبأيّ حلـم أصابرهم، وبأيّ معرفة أفصل بـينهم، وبأيّ علـم أتقن أمورهم، وبأيّ يد أسطو علـيهم، وبأيّ رجل أطؤهم، وبأيّ طاقة أخصمهم، وبأيّ جند أقاتلهم، وبأيّ رفق أستألفهم، فإنه لـيس عندي يا إلهي شيء مـما ذكرت يقول لهم، ولا يقوى علـيهم ولا يطيقهم، وأنت الربّ الرحيـم، الذي لا يكلِّف نفساً إلا وسعها، ولا تحملها إلا طاقتها، ولا يعنتها ولا يفدحها، بل أنت ترأفها وترحمها. قال الله عزّ وجلّ: إنـي سأطوّقك ما حمَّلتك، أشرح لك صدرك، فـيسع كلّ شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كلّ شيء، وأبسط لك لسانك، فتنطق بكلّ شيء، وأفتـح لك سمعك فتعي كلّ شيء، وأمدّ لك بصرك، فتنفذ كلّ شيء، وأدبر لك أمرك فتتقن كلّ شيء، وأحصي لك فلا يفوتك شيء، وأحفظ علـيك فلا يعزب عنك شيء، وأشدّ لك ظهرك، فلا يهدّك شيء، وأشدّ لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأشدّ لك قلبك فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلـمة، فأجعلهما جنداً من جنودك، يهديك النور أمامك، وتـحوطك الظلـمة من ورائك، وأشدّ لك عقلك فلا يهولك شيء، وأبسط لك من بـين يديك، فتسطو فوق كلّ شيء، وأشدّ لك وطأتك، فتهدّ كلّ شيء، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء.

ولـما قـيـل له ذلك، انطلق يؤمّ الأمة التـي عند مغرب الشمس، فلـما بلغهم، وجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا الله، وقوّة وبأساً لا يطيقه إلا الله، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة، وقلوبـاً متفرّقة فلـما رأى ذلك كاثرهم بـالظلـمة، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها، فأحاطتهم من كلّ مكان، وحاشتهم حتـى جمعتهم فـي مكان واحد، ثم أخذ علـيه بـالنور، فدعاهم إلـى الله وإلـى عبـادته، فمنهم من آمن له، ومنهم من صدّ، فعمد إلـى الذين تولوا عنه، فأدخـل علـيهم الظلـمة، فدخـلت فـي أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم، ودخـلت فـي بـيوتهم ودورهم، وغشيتهم من فوقهم، ومن تـحتهم ومن كلّ جانب منهم، فماجوا فـيها وتـحيروا فلـما أشفقوا أن يهلكوا فـيها عجوا إلـيه بصوت واحد، فكشفها عنهم وأخدهم عنوة، فدخـلوا فـي دعوته، فجنَّد من أهل الـمغرب أمـما عظيـمة، فجعلهم جنداً واحداً، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلـمة تسوقهم من خـلفهم وتـحرسهم من حولهم، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم، وهو يسير فـي ناحية الأرض الـيـمنى، وهو يريد الأمة التـي فـي قطر الأرض الأيـمن التـي يقال لها هاويـل، وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتـماره، فلا يخطىء إذا ائتـمر، وإذا عمل عملاً أتقنه. فـانطلق يقود تلك الأمـم وهي تتبعه، فإذا انتهى إلـى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال، فنظمها فـي ساعة، ثم جعل فـيها جميع من معه من تلك الأمـم وتلك الـجنود، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها، ثم دفع إلـى كلّ إنسان لوحاً فلا يكرثه حمله، فلـم يزل كذلك دأبة حتـى انتهى إلـى هاويـل، فعمل فـيها كعمله فـي ناسك. فلـما فرغ منها مضى علـى وجهه فـي ناحية الأرض الـيـمنى حتـى انتهى إلـى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فـيها وجند منها جنودا، كفعله فـي الأمتـين اللتـين قبلها، ثم كرّ مقبلاً فـي ناحية الأرض الـيسرى، وهو يريد تأويـل وهي الأمة التـي بجيال هاويـل، وهما متقابلتان بـينهما عرض الأرض كله فلـما بلغها عمل فـيها، وجند منها كفعله فـيـما قبلها فلـما فرغ منها عطف منها إلـى الأمـم التـي وسط الأرض من الـجنّ وسائر الناس، ويأجوج ومأجوج فلـما كان فـي بعض الطريق مـما يـلـي منقطع الترك نـحو الـمشرق، قالت له أمة من الإنس صالـحة: يا ذا القرنـين، إن بـين هذين الـجبلـين خـلقا من خـلق الله، وكثـير منهم مشابه للإنس، وهم أشبـاه البهائم، يأكلون العشب، ويفترسون الدوابّ والوحوش كما تفترسها السبـاع، ويأكلون خشاش الأرض كلها من الـحيات والعقارب، وكلّ ذي روح مـما خـلق الله فـي الأرض، ولـيس لله خـلق ينـمو نـماءهم فـي العام الواحد، ولا يزداد كزيادتهم، ولا يكثر ككثرتهم، فإن كانت لهم مدّة علـى ما نرى من نـمائهم وزيادتهم، فلا شكّ أنهم سيـملئون الأرض، ويجلون أهلها عنها ويظهرون علـيها فـيفسدون فـيها، ولـيست تـمرّ بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونـحن نتوقعهم، وننتظر أن يطلع علـينا أوائلهم من بـين هذين الـجبلـين { فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرْجاً علـى أنْ تَـجْعَلَ بَـيْنَنا وبَـيْنَهُمْ سَدًّا قالَ ما مَكَّنِـي فِـيهِ رَبّـي خَيْرٌ فأعِينُونِـي بِقُوَّةٍ أجْعَلْ بَـيْنَكُمْ وَبَـيْنَهُمْ رَدْماً } أعدّوا إلـيّ الصخور والـحديد والنـحاس حتـى أرتاد بلادهم، وأعلـم علـمهم، وأقـيس ما بـين جبلـيهم.

ثم انطلق يؤمهم حتـى دفع إلـيهم وتوسط بلادهم، فوجدهم علـى مقدار واحد، ذكرهم وأنثاهم، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل الـمربوع منا، لهم مخالب فـي موضع الأظفـار من أيدينا، وأضراس وأنـياب كأضراس السبـاع وأنـيابها، وأحناك كأحناك الإبل قوّة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الـجِرّة من الإبل، أو كقضم الفحل الـمسنّ، أو الفرس القويّ، وهم هلب، علـيهم من الشعر فـي أجسادهم ما يواريهم، وما يتقون به الـحرّ والبرد إذا أصابهم ولكل واحد منهم أذنان عظيـمتان: إحداهما وبرة ظهرها وبطنها، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها، تَسعانة إذا لبسهما، يـلتـحف إحداهما، ويفترش الأخرى، ويصيف فـي إحداهما، ويَشْتـى فـي الأخرى، ولـيس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يـموت فـيه، ومنقطع عمره، وذلك أنه لا يـموت ميت من ذكورهم حتـى يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تـموت الأنثى حتـى يخرج من رحمها ألف ولد، فإذا كان ذلك أيقن بـالـموت، وهم يرزقون التنـين يام الربـيع، ويستـمطرونه إذا تـحينوه كما نستـمطر الغيث لـحينه، فـيقذفون منه كلّ سنة بواحد، فـيأكلونه عامهم كله إلـى مثله من العام القابل، فـيغنـيهم علـى كثرتهم ونـمائهم، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا، ورؤي أثره علـيهم، فدرّت علـيهم الإناث، وشَبقت منهم الرجال الذكور، وإذا أخطأهم هَزَلُوا وأجدبوا، وجفرت الذكور، وحالت الإناث، وتبـين أثر ذلك علـيهم، وهم يتداعون تداعي الـحَمام، ويعوُون عُواء الكلاب، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم.

فلـما عاين ذلك منهم ذو القرنـين انصرف إلـى ما بـين الصَّدَفـين، فقاس ما بـينهما وهو فـي منقطع أرض الترك مـما يـلـي مشرق الشمس، فوجد بُعد ما بـينهما مئة فرسخ فلـما أنشأ فـي عمله، حفر له أساساً حتـى بلغ الـماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخاً، وجعل حشوه الصخور، وطينه النـحاس، يذاب ثم يُصبّ علـيه، فصار كأنه عِرْق من جبل تـحت الأرض، ثم علاه وشَرّفه بزُبَر الـحديد والنـحاس الـمذاب، وجعل خلاله عِرْقا من نـحاس أصفر، فصار كأنه بُرد مـحبَّر من صفرة النـحاس وحمرته وسواد الـحديد فلـما فرغ منه وأحكمه، انطلق عامداً إلـى جماعة الإنس والـجنّ فبـينا هو يسير، دفع إلـى أمة صالـحة يهدون بـالـحقّ وبه يعدلون، فوجد أمة مقسطة مقتصدة، يقسمون بـالسوية، ويحكمون بـالعدل، ويتآسون ويتراحمون، حالهم واحدة، وكلـمتهم واحدة، وأخلاقهم مشتبهة، وطريقتهم مستقـيـمة، وقلوبهم متألفة، وسيرتهم حسنة، وقبورهم بأبواب بـيوتهم، ولـيس علـى بـيوتهم أبواب، ولـيس علـيهم أمراء، ولـيس بـينهم قضاة، ولـيس بـينهم أغنـياء، ولا ملوك، ولا أشراف، ولا يتفـاوتون، ولا يتفـاضلون، ولا يختلفون، ولا يتنازعون، ولا يستبُّون، ولا يقتتلون، ولا يَقْحَطُون، ولا يحردون، ولا تصيبهم الآفـات التـي تصيب الناس، وهم أطول الناس أعماراً، ولـيس فـيهم مسكين، ولا فقـير، ولا فظّ، ولا غلـيظ فلـما رأى ذلك ذو القرنـين من أمرهم، عجب منه وقال: أخبرونـي أيها القوم خبركم، فإنـي قد أحصيت الأرض كلها برّها وبحرها، وشرقها وغربها، ونورها وظلـمتها، فلـم أجد مثلكم، فأخبرونـي خبركم قالوا: نعم، فسلنا عما تريد، قال: أخبرونـي، ما بـال قبور موتاكم علـى أبواب بـيوتكم؟ قالوا: عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الـموت، ولا يخرج ذِكرُه من قلوبنا قال: فما بـال بـيوتكم لـيس علـيها أبواب؟ قالوا: لـيس فـينا متهم، ولـيس منا إلا أمين مؤتـمن قال: فما لكم لـيس علـيكم أمراء؟ قالوا: لا نتظالـم قال: فما بـالكم لـيس فـيكم حكام؟ قالوا: لا نـختصم قال: فما بـالكم لـيس فـيكم أغنـياء؟ قالوا: لا نتكاثر قال: فما بـالكم لـيس فـيكم ملوك؟ قالوا: لا نتكابر قال: فما بـالكم لا تتنازعون ولا تـختلفون؟ قالوا: من قِبَل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بـيننا قال: فما بـالكم لا تستَبُّون ولا تقتتلون؟ قالوا: من قبل أنا غلبنا طبـائعنا بـالعزم، وسسنا أنفسنا بـالأحلام قال: فما بـالكم كلـمتكم واحدة، وطريقتكم مستقـيـمة مستوية؟ قالوا: من قبل أنا لا نتكاذب، ولا نتـخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضا قال: فأخبرونـي من أين تشابهت قلوبكم، واعتدلت سيرتكم؟ قالوا: صحّت صدورنا، فنزع بذلك الغلّ والـحسد من قلوبنا قال: فما بـالكم لـيس فـيكم مسكين ولا فقـير؟ قالوا: من قبل أنا نقتسم بـالسوية قال: فما بـالكم لـيس فـيكم فظّ ولا غلـيظ؟ قالوا: من قبل الذلّ والتواضع قال: فما جعلكم أطول الناس أعماراً؟ قالوا: من قِبَل أنا نتعاطى الـحقّ ونـحكم بـالعدل قال: فما بـالكم لا تُقْحَطون؟ قالوا: لا نغفل عن الاستغفـار قال: فما بـالكم لا تَـحْرَدون؟ قالوا: من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا، وأحببناه وحرصنا علـيه، فعرينا منه قال: فما بـالكم لا تصيبكم الآفـات كما تصيب الناس؟ قالوا: لا نتوكل علـى غير الله، ولا نعمل بـالأنواء والنـجوم قال: حدثونـي أهكذا وجدتـم آبـاءكم يفعلون؟ قالوا: نعم وجدنا آبـاءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، وَيعفون عمن ظلـمهم، ويُحسنون إلـى من أساء إلـيهم، ويحلُـمون عمن جهل علـيهم، ويستغفرون لـمن سبهم، ويَصِلون أرحامهم، ويؤدّون أماناتهم، ويحفظون وقتهم لصلاتهم، ويُوَفُّون بعهودهم، ويَصدُقون فـي مواعيدهم، ولا يرغبون عن أكفـائهم، ولا يستنكفون عن أقاربهم، فأصلـح الله لهم بذلك أمرهم، وحفظهم ما كانوا أحياء، وكان حقا علـى الله أن يحفظهم فـي تركتهم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبـي رافع، عن أبـي هريرة، عن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ يَحْفُرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حتـى إذَا كادُوا يَرَوْنَ شُعاعَ الشَّمْسِ قالَ الَّذِي عَلَـيْهِمْ ارْجِعُوا فَتَـحْفِرُونَهُ غَداً، فَـيُعِيدُهُ اللَّهُ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ تَرَكُوهُ، حتـى إذَا جاءَ الوَقْتُ قالَ: إنْ شاءَ اللَّهُ، فَـيَحْفُرُونَهُ ويَخْرُجُون علـى النَّاسِ، فَـيَنْشِفُونَ الـمِياهَ، ويَتَـحَصَّنُ النَّاسُ فِـي حُصُونِهِمْ، فَـيرْمُونَ بِسِهامِهِمْ إلـى السَّماءِ، فَـيرْجِعُ فِـيها كَهَيْئَةِ الدّماءِ، فَـيَقُولُونَ: قَهَرْنا أهْلِ الأرْضِ، وَعَلَوْنا أهْلَ السَّماءِ، فَـيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَـيْهِمْ نَغَفـاً فِـي أقْـفـائِهمْ فَتَقْتُلُهُمْ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والَّذِي نَفْسُ مُـحَمَّدٍ بِـيَدِهِ إنَّ دَوَابَّ الأرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكَرُ مِنْ لُـحُومِهِمْ "

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاريّ ثم الظَّفَريّ، عن مـحمود بن لبـيد أخي بنـي عبد الأشهل، عن أبـي سعيد الـخدري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يُفْتَـحُ يأْجُوجُ ومَأْجُوجُ فَـيَخْرُجُونَ علـى النَّاسِ كمَا قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يِنْسِلُونَ فَـيَغْشُونَ الأرْضَ، ويَنْـحازُ الـمُسْلِـمُونَ عَنْهُمْ إلـى مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَيَضُمُّونَ إلَـيْهِمْ مَوَاشيَهُمْ، فَـيَشْرَبُونَ مِياهَ الأرْضِ، حتـى إنَّ بَعْضَهُمْ لَـيَـمُرَّ بـالنَّهْرَ فَـيَشْرَبُونَ ما فِـيهِ، حتـى يَتْرُكُوهُ يابساً، حتـى إنَّ بَعْدَهمْ لَـيَـمُرُّ بِذلكَ النَّهْرِ، فـيَقُولُ: لَقَدْ كانَ هَا هُنا ماءٌ مَرَّةً، حتـى لَـمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أحَدٌ إلاَّ انْـحازَ إلـى حِصْنٍ أوْ مَدِينَةٍ، قالَ قائِلُهُمْ: هَولاءِ أهْلُ الأرْضِ قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ، بَقِـيَ أهْلُ السَّمَاءِ، قالَ: ثُمَّ يَهُزُّ أحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ يَرْمي بها إلـى السَّماءِ، فَترْجِعُ إلَـيْهِ مُخَضَّبَةً دَماً للْبِلاءِ وَالفِتْنَةِ. فَبَـيّناهُمْ علـى ذلكَ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَـيْهِمْ دُوداً فـي أعناقِهِمْ كالنَّغَفِ، فَتَـخْرجُ فِـي أعْناقِهِمْ فِـيُصْبِحُونَ مَوْتَـى، لا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ، فَـيَقُولُ الـمُسلِـمُونَ: ألا رَجُلٌ يَشْري لَنا نَفْسَهُ، فَـيَنْظُرُ ما فعل العدوّ، قال: فَـيَتَـجَرَّدُ رَجُلٌ مِنْهُمْ لذلكَ مُـحْتَسِبـاً لِنَفْسِهِ، قَدْ وَطَّنَها علـى أنَّهُ مَقُتُولٌ، فـيَنْزِلُ فَـيَجِدُهُمْ مَوْتـى، بَعْضُهُمْ عَلـى بَعْضٍ، فَـيْنادي: يا مَعْشَرَ الـمُسْلِـمِينَ، ألا أبْشِرُوا، فإنَّ اللَّهَ قَدْ كَفـاكُمْ عَدُوَّكُمْ، فـيَخْرُجونَ مِنْ مَدَائِنِهمْ وَحُصُونِهِمْ، وَيُسَرِّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يَكُونُ لَهَا رَعْيٌ إلاَّ لُـحُومُهُمْ، فَتَشْكَرُ عَنْهُمْ أحُسَنَ ما شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّبـاتِ أصَابَتْ قَطُّ "

حدثني بحر بن نصر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي معاوية، عن أبـي الزاهرية وشريح بن عبـيد: أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف: صنف طولهم كطول الأرز، وصنف طوله وعرضه سواء، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويـلتـحف بـالأخرى فتغطى سائر جسده.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: { قالوا يا ذَا القَرْنَـيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } قال: كان أبو سعيد الـخُدريّ يقول: إن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَـمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ حتـى يُولَدَ لِصُلْبِهِ ألْفُ رَجُلٍ " قال: وكان عبد الله بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول: لا يـموت من يأجوج ومأجوج أحد يولد له ألف رجل من صلبه.

فـالـخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه فـي قصة يأجوج ومأجوج، يدلّ علـى أن الذين قالوا لذي القرنـين { إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } إنـما أعلـموه خوفَهم ما يُحدث منهم من الإفساد فـي الأرض، لا أنهم شَكَوا منهم فساداً كان منهم فـيهم أو فـي غيرهم، والأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد فـي الأرض، ولا دلالة فـيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنـين السدّ الذي أحدثه بـينهم وبـين من دونهم من الناس فـي الناس غيرهم إفساد.

فإذا كان ذلك كذلك بـالذي بـيَّنا، فـالصحيح من تأويـل قوله { إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } إن يأجوج ومأجوج سيفسدون فـي الأرض.

وقوله { فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: { فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } كأنهم نـحوا به نـحو الـمصدر من خَرْج الرأس، وذلك جعله. وقرأته عامَّة قرّاء الكوفـيـين: «فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجاً» بـالألف، وكأنهم نـحوا به نـحو الاسم، وعنوا به أجرة علـى بنائك لنا سدّاً بـيننا وبـين هؤلاء القوم.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندنا بـالصواب قراءة من قرأه: «فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجاً» بـالألف، لأن القوم فـيـما ذُكر عنهم، إنـما عرضوا علـى ذي القرنـين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به علـى بناء السدِّ، وقد بـين ذلك بقوله:
{ فَأعِينُونِـي بقُوَّةٍ أجْعَلْ بَـيْنَكُمْ وبَـيْنَهُمْ رَدْماً }
ولـم يعرضوا علـيه جزية رؤوسهم. والـخراج عند العرب: هو الغلة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـيّ، عن ابن عبـاس «فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجاً» قال: أجراً { علَـى أنْ تَـجعَلَ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَهُمْ سَدًّا }.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: «فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجاً» قال: أجرا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة، قوله: «فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجاً» قال: أجراً.

وقوله: { علَـى أنْ تَـجْعَلَ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَهُمْ سَدّاً } يقول: قالوا له: هل نـجعل لك خراجاً حتـى أن تـجعل بـيننا وبـين يأجوج ومأجوج حاجزاً يحجز بـيننا وبـينهم، ويـمنعهم من الـخروج إلـينا، وهو السدّ.


 قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً

يقول تعالـى ذكره: قال ذو القرنـين: الذي مكننـي فـي عمل ما سألتـمونـي من السدّ بـينكم وبـين هؤلاء القوم ربـي، ووطأه لـي، وقوّانـي علـيه، خير من جُعلكم، والأجرة التـي تعرضونها علـيّ لبناء ذلك، وأكثر وأطيب، ولكن أعينونـي منكم بقوّة، أعينونـي بفَعلة وصناع يُحسنون البناء والعمل. كما:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد { ما مَكَّنِّـي فِـيهِ رَبّـي خَيْرٌ فَأَعِينونـي بقُوَةٍ } قال: برجال { أجْعَلْ بَـيْنَكُمْ وَبَـيْنَهُمْ رَدْماً } وقال ما مكنـي، فأدغم إحدى النونـين فـي الأخرى، وإنـما هو ما مكننـي فـيه. وقوله: { أجعَلْ بَـيْنَكُمْ وَبَـيْنَهُمْ رَدْماً } يقول: أجعل بـينكم وبـين يأجوج ومأجوج ردماً. والردم: حاجز الـحائط والسدّ، إلا أنه أمنع منه وأشدّ، يقال منه: قد ردم فلان موضع كذا يَردِمه رَدْماً ورُداماً ويقال أيضاً: رَدَّم ثوبه يردمه، وهو ثوب مُرَدّم: إذا كان كثـير الرقاع ومنه قول عنترة:
هَلْ غادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ                   أمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { أجْعَلْ بَـيْنَكُمْ وَبَـيْنَهُمْ رَدْماً } قال: هو كأشدّ الـحجاب.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رجلاً قال: يا نبـيّ الله قد رأيت سدّ يأجوج ومأجوج، قال: «انْعَتْهُ لـي»، قال: كأنه البرد المحَّبر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء، قالَ: «قَدْ رأيَتَهُ».


آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً  *  فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً

يقول عزّ ذكره: قال ذو القرنـين للذين سألوه أن يجعل بـينهم وبـين يأجوج ومأجوج سدّا { آتونِي } أي جيئونـي بِزُبَر الـحديد، وهي جمع زُبْرة، والزُّبْرة: القطعة من الـحديد. كما:

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { زُبَرَ الـحَدِيدِ } يقول: قطع الـحديد.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { آتُونِـي زُبَرَ الـحَدِيدِ } قال: قطع الـحديد.

حدثنـي إسماعيـل بن سيف، قال: ثنا علـيّ بن مسهر، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح، قوله: { زُبَرَ الـحَدِيدِ } قال: قطع الـحديد.

حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسديّ، قال: ثنا عبـيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى عن مـجاهد، قوله: { آتُونِـي زُبَرَ الـحَدِيدِ } قال: قطع الـحديد.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { آتُونِـي زُبَرُ الـحَدِيدِ }: أي فَلَق الـحديث.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: { آتُونِـي زُبَرُ الـحَدِيدِ } قال: قطع الـحديد.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: { آتُونِـي زُبَرَ الـحَدِيدِ } قال: قطع الـحديد.

وقوله: { حتـى إذَا ساوَى بـينَ الصَّدفَـيْنِ } يقول عزّ ذكره: فآتُوهُ زُبَر الـحديد، فجعلها بـين الصدفـين حتـى إذا ساوى بـين الـجبلـين بـما جعل بـينهما من زُبر الـحديد، ويقال: سوّى. والصدفـان: ما بـين ناحيتـي الـجبلـين ورؤوسهما ومنه قوله الراجز:
قدْ أخَذَتْ ما بـينَ عَرْضِ الصُّدُفَـيْنِ                   ناحِيَتَـيْها وأعالـي الرُّكْنَـيْنِ
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله { بـينَ الصَّدَفَـيْنِ } يقول: بـين الـجبلـين.

حدثنـي مـحمد، بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس:
{ حتـى إذَا بَلَغَ بـينَ السَّدَّيْنِ }
قال: هو سدّ كان بـين صَدَفـين، والصدفـان: الـجبلان.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى «ح» وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { الصَّدَفَـيْنِ } رؤوس الـجبلـين.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.

حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا مُعاذ يقول: ثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { بـينَ الصَّدَفَـيْنِ } يعنـي الـجبلـين، وهما من قبل أرمينـية وأذربـيجان.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { حتـى إذَا ساوَى بـينَ الصَّدَفَـيْنِ } وهما الـجبلان.

حدثنـي أحمد بن يوسف، قال: أخبرنا القاسم، قال: ثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم أنه قرأها: { بـينَ الصَّدَفَـيْنِ } منصوبة الصاد والدال، وقال: بـين الـجبلـين، وللعرب فـي الصدفـين: لغات ثلاث، وقد قرأ بكلّ واحدة منها جماعة من القراء: الفتـح فـي الصاد والدال، وذلك قراءة عامة قرّاء أهل الـمدينة والكوفة والضمّ فـيهما، وهي قراءة أهل البصرة والضم فـي الصاد وتسكين الدال، وذلك قراءة بعض أهل مكة والكوفة.

والفتـح فـي الصاد والدال أشهر هذه اللغات، والقراءة بها أعجب إلـيّ، وإن كنت مستـجيزا القراءة بجميعها، لاتفـاق معانـيها. وإنـما اخترت الفتـح فـيهما لـما ذكرت من العلة.

وقوله: { قالَ انْفُخُوا } يقول عزّ ذكره، قال للفعلة: انفخوا النار علـى هذه الزُّبر من الـحديد.

وقوله: { حتـى إذَا جَعَلَهُ ناراً } وفـي الكلام متروك، وهو فنفخوا، حتـى إذا جعل ما بـين الصدفـين من الـحديد ناراً { قالَ آتُونِـي أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْراً } فـاختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة، وبعض أهل الكوفة: { قالَ آتُونِـي } بـمدّ الألف من { آتُونِـي } بـمعنى: أعطونـي قطراً أفرغ علـيه. وقرأه بعض قرّاء الكوفة، قال: «ائْتُونِـي» بوصل الألف، بـمعنى: جيئونـي قِطْرا أفرغ علـيه، كما علـيه: أخذت الـخطام، وأخذت بـالـخطام، وجئتك زيداً، وجئتك بزبر. وقد يتوجه معنى ذلك إذا قرىء كذلك إلـى معنى أعطونـي، فـيكون كأنه قارئه أراد مدّ الألف من آتونـي، فترك الهمزة الأولـى من آتونـي، وإذا سقطت الأولـى همز الثانـية.

وقوله: { أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْراً } يقول: أصبّ علـيه قطراً، والقِطْر: النُّـحاس. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله { أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْراً } قال: القِطر: النـحاس.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، مثله.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا مُعاذ يقول: ثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْراً }: يعنـي النـحاس.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْراً } أي النـحاس لـيـلزمه به.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله { أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْراً } قال: نـحاساً.

وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: القِطر: الـحديد الـمذاب، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر:
حُساماً كَلَوْنِ الـمِلْـحِ صَافٍ حَديدُه                   جُزَاراً مِنَ اقْطارِ الـحَديدِ الـمُنَعَّتِ
وقوله: { فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ } يقول عزّ ذكره: فما اسطاع يأجوج ومأجوج أن يَعلُوا الردم الذي جعله ذو القرنـين حاجزاً بـينهم، وبـين من دونهم من الناس، فـيصيروا فوقه وينزلوا منه إلـى الناس.

يقال منه: ظهر فلان فوق البـيت: إذا علاه ومنه قول الناس: ظهر فلان علـى فلان: إذا قهره وعلاه.


{ وَما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبـاً } يقول: ولـم يستطيعوا أن ينقبوه من أسفله. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ } من قوله: { وَما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبـاً }: أي من أسفله.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله { فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ } قال: ما استطاعوا أن ينزعوه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة { فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ } قال: أن يرتقُوه { وَما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبـاً }.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، { فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ } قال: أن يرتقُوه { وَما اسْتَطاعُوا لَهْ نَقْبـاً }.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثن حجاج، عن ابن جريج { فَمَا اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ } قال: يعلوه { وَما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبـاً }: أي ينقبوه من أسفله.

واختلف أهل العربـية فـي وجه حذف التاء من قوله: { فَمَا اسْطاعُوا } فقال بعض نـحويـي البصرة: فعل ذلك لأن لغة العرب أن تقول: اسطاع يسطيع، يريدون بها: استطاع يستطيع، ولكن حذفوا التاء إذا جُمعت مع الطاء ومخرجهما واحد. قال: وقال بعضهم: استاع، فحذف الطاء لذلك. وقال بعضهم: أسطاع يسطيع، فجعلها من القطع كأنها أطاع يطيع، فجعل السين عوضاً من إسكان الواو. وقال بعض نـحويـيِّ الكوفة: هذا حرف استعمل فكثر حتـى حذف.

قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً

يقول عزّ ذكره: فلـما رأى ذو القرنـين أن يأجوج ومأجوج لا يستطيعون أن يظهروا ما بنـي من الردم، ولا يقدرون عل نقبه، قال: هذا الذي بنـيته وسوّيته حاجزاً بـين هذه الأمة، ومن دون الردم رحمة من ربـي رحم بها من دون الردم من الناس، فأعاننـي برحمته لهم حتـى بنـيته وسوّيته لـيكفّ بذلك غائلة هذه الأمة عنهم.

وقوله: { فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبّـي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } يقول: فإذا جاء وعد ربـي الذي جعله ميقاتاً لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء هذا الردم لهم، جعله دكاء، يقول: سوّاه بـالأرض، فألزقه بها، من قولهم: ناقة دكاء: مستوية الظهر لا سنام لها. وإنـما معنى الكلام: جعله مدكوكا، فقـيـل: دكاء. وكان قتادة يقول فـي ذلك ما:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { فإذَا جاءَ وَعدُ رَبـي جَعَلَه دَكَّاءَ } قال: لا أدري الـجبلـين يعنـي به، أو ما بـينهما.

وذُكر أن ذلك يكون كذلك بعد قتل عيسى ابن مريـم علـيه السلام الدجال. ذكر الخبر قال ذلك:

حدثنـي أحمد بن إبراهيـم الدورقـي، قال: ثنا هشيـم بن بشير، قال: أخبرنا العوّام، عن جبلة بن سحيـم، عن مؤثر، وهو ابن عفـارة العبدي، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَقِـيتُ لَـيْـلَةَ الإسْرَاءِ إبْرَاهِيـمَ وَمُوسَى وَعيسَى فَتَذَاكرُوا أمْر السَّاعَةِ، وَرَدُّوا الأَمْرَ إلـى إبْرَاهِيـمَ فَقالَ إبْرَاهِيـمُ: لا عِلْـمَ لـي بِها، فَرَدُّوا الأمْرَ إلـى مُوسَى، فقالَ مُوسَى: لا عِلْـمَ لـي بها، فَرَدُّوا الأَمْرَ إلـى عِيسَى قالَ عِيسَى: أمَّا قِـيامُ السَّاعَةِ لا يَعْلَـمُهُ إلاَّ اللَّهُ، وَلَكِنَّ رَبّـي قَدْ عَهِدَ إلـيَّ بِـمَا هُوَ كائِنٌ دُونَ وَقْتِها، عَهِدَ إلـيَّ أنَّ الدَّجَّالَ خارجٌ، وأنَّهُ مُهْبطي إلَـيْه، فَذَكَرَ أنَّ مَعَهُ قَصَبَتَـيْنِ، فإذَا رآنِـي أهْلَكَهُ اللَّهُ، قالَ: فَـيَذُوبُ كمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ، حتـى إنَّ الـحَجَرَ والشَّجَرَ لَـيَقُولُ: يا مُسْلِـمُ هَذَا كافِرٌ فـاقْتُلْهُ، فَـيُهْلِكُهُمْ اللَّهُ، وَيَرْجِعُ الناسُ إلـى بِلادِهِمْ وأوْطانِهِمْ فَـيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجَ مِنْ كُلّ حَدْبٍ يَنْسِلُونَ، لا يَأْتُونَ عَلـى شَيْءٍ إلاَّ أكَلُوهُ، وَالا يَـمُرُّونَ عَلـى ماءِ إلاَّ شَرِبُوهُ، فـيَرّجِعُ النَّاسُ إلـيَّ، فَـيَشْكُونَهُمْ، فأدْعُوا اللَّهَ عَلَـيْهِمْ فَـيُـمِيتُهُمْ حتـى تَـجْوَى الأرْضُ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِمُ، فَـيَنْزِلُ الـمَطَرُ، فَـيَجُرُّ أجْسادَهُمْ، فـيُـلْقِـيهِمْ فِـي البَحْرِ، ثُمَّ يَنْسِفُ الـجِبـالَ حتـى تَكُونَ الأرْضُ كالأديـم، فَعَهِدَ إلـيَّ رَبّـي أنّ ذلكَ إذا كان كذلك، فَإنَّ السَّاعَةَ مِنْهُمْ كالـحامِلِ الـمُتِـمّ الَّتِـي لا يَدْرِي أهْلُها مَتـى تَفْجَوهُمْ بِوِلادِها، لَـيْلاً أوْ نَهاراً "

حدثني عبـيد بن إسماعيـل، قال: ثنا الـمـحاربـيّ، عن أصبع بن زيد، عن العوّام بن حوشب، عن جبلة بن سحيـم، عن مؤثر بن عَفـازَة، عن عبد الله بن مسعود، قال: لـما أُسْري برسول الله صلى الله عليه وسلم التقـي هو وإبراهيـم وموسى وعيسى علـيهم السلام.

فتذاكروا أمر الساعة. فذكر نـحو حديث إبراهيـم الدورقـي عن هشيـم، وزاد فـيه: قال العوّام بن حوشب: فوجدت تصديق ذلك فـي كتاب الله تعالـى، قال الله عزّ وجلّ:
{ حتـى إذَا فُتِـحَتْ يأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الـحَقُّ فإذَا هِيَ شاخِصَةٌ أبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا }
وقال: { فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبّـي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وكانَ وَعْدُ رَبّـي حَقًّا } يقول: وكان وعد ربـي الذي وعد خـلقه فـي دكّ هذا الردم، وخروج هؤلاء القوم علـى الناس، وعيثهم فـيه، وغير ذلك من وعده حقاً، لأنه لا يخـلف الـميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن.

هناك تعليق واحد: